الإدارة الروسيّة اليونانيّة للجبل المقدّس: مقترحات لوضع الجبل بعد الحرب العالمية الأولى
الدكتورة لورا هيرد حاصلة على دكتوراه في العلوم التاريخيّة، باحثة رئيسية في قسم التاريخ العام في معهد سانت< بطرسبورغ للتاريخ التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، وأستاذة مشاركة في قسم الدراسات الكتابية في كلية علوم اللّغة في جامعة سانت بطرسبرغ الحكومية، محاضرة في أكاديمية سانت بطرسبرغ اللاهوتيّة.
خلال القرن التاسع عشر، تشكلت ظاهرة روحية وثقافية فريدة في العالم الأرثوذكسي الروسي وهي "آثوس الروسي". على مدى عقود، قامَ الحجاج الروس بزيارة الجبل المقدس، وقرر العديد منهم تسليم حياتهم والبقاء في بستان والدة الإله. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، أصبح للروس ثلاثة أديرة كبيرة في شبه جزيرة آثوس وهي دير القديس بندلايمن، واسقيط القديس اندراوس، واسقيط النبي إيليّا بالإضافة إلى العديد من القلالي والكهوف والاساقيط حيث عاش الكثير من الرهبان والمبتدئين الروس بالجهاد والصلوات. تمتعت رهبنة الجبل المقدس الروسية على الدوام بدعم الدبلوماسية الروسية (عبر السّفارة الرّوسية في مدينة القسطنطينية وقنصليّتها في مدينة تسالونيك). غالبًا ما كان القناصلة الرّوس يقومون برحلات إلى جبل آثوس، ويقومون بدعم الرّهبان الروس هناك. ولعلّ التّدفق السخي للتبرعات من روسيا، ومن ممثّليّات الجبل في المدن الروسية كموسكو، وسانت بطرسبرغ، وأوديسّا، ومن العديد من الأديرة التي تُتبع للجبل (كدير آثوس الجديد ودير آثوس الثاني في القوقاز) ومن معتمديّات الجبل المقدّس في كلٍّ من فلسطين وصربيا ولبنان يسمح لنا بالحديث عن "عالم آثوسي" كامل، وعن تأثير آثوس الروسي بعيدًا عن أراضي الجبل المقدّس.
في الإمبراطورية العثمانيّة، تمتع الآثوسيّون الرّوس بحريّة نسبيّة. حيث أنّه لم يتم تحديد وضعهم بشكل نهائي من قبل التشاريع العثمانية، فلم يتم الاعتراف بهم كأجانب، لكنّهم في الوقت ذاته لم يفقدوا جنسيّتهم الرّوسيّة. في الواقع، احتفظ معظمهم بجوازات سفرهم الروسية، وظلّ اعتبارهم رعايا روسيّون في نظرِ السلطات الروسية. صدر مرسوم من الأمبراطور ألكسندر الأول عام 1816، نصَّ على أن الرّسامة (الشّرطنة) الرّهبانيّة الذي تمّت خارج الحدود الرّوسيّة لا يُعترف بقانونيّتها على الأراضي الرّوسيّة. أدّى هذا التشريع المعاكس إلى صعوبات بيروقراطية جمّة في بعض الأحيان. لكنه في الواقع مكّن الرهبان الرّوس المتواجدين في الجبل المقّدس والذين تتم تغطيتهم ورعايتهم من قبل الدّبلوماسيين الرّوس، من قبول الراغبين الجدد للإلتحاق بالسّلك الرهباني وبهذا تقوية وجودهم في الجبل المقدّس.
أثارت الزيادة في عدد الرهبان الروس (الذين وصل عددهم إلى4000 في بداية القرن العشرين) مخاوف اليونانيين، الذين كانوا يعتبرون أن آثوس هي أرض تابعة لهم. في سياق تفاقم التناقضات العرقية في البلقان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان يُنظر إلى السلافية، وبالأخص الرّهبنة الروسية، على أنها تهديداً للمصالح الوطنية اليونانيّة. وقد بذل الدبلوماسيّون الرّوس جهداً كبيراً خلال العام 1873 في إقناع البطريرك يواكيم الثاني لاعتبار دير القديس بندلايمن في الجبل المقدّس ديراً "روسيّاً" بشكلٍ رسميٍّ.
وصلت هذه التوترات إلى أقصى تعقيد بحلول العام 1912، عندما اندلعت حرب البلقان الأولى. وحدث أن قررت الدول المسيحية في شبه جزيرة البلقان لأوّل معارضة الإمبراطورية العثمانية بشكل موحّد. وبالفعل، في الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1912 هبطت فرقة يونانية بقيادة تيليماخ كورموليس في رصيف دافني في شبه جزيرة آثوس وقامت بقراءة المرسوم الملكي اليوناني الذي ينص على السيطرة على آثوس. وفي اليوم التالي أي في الثالث من شهر تشرين الثاني عام 1912، وصلت قوة إنزال مؤلفة من 800 شخص يوناني إلى جبل آثوس. وإذا كان تحرير آثوس هو بمثابةِ فصحٍ حقيقي بالنسّبةِ لليونانيين، فإنه كان أمراً يثير القلق بالنّسبةِ للرهبان السلاڤيين. لأنهم لم يعلموا إذ كان اليونانيّون سيقومون بمراعاة معاهدة برلين لعام 1878 وخاصّةً تلك المادّة المتعلّقة بشأن رعاية الرّهبان الأجانب من قبل قنصليّات بلادهم. والسؤال الأكبر الذي أصبح فيما بعد موضوعاً لمناقشات وجدالات مطوّلة هو تحت أي سلطة سيكون آثوس؟ كان من المقرر حل هذه المعضلة في مؤتمر لندن للقوى العظمى في مايو 1913 حيث قامت روسيا بدعم كبيرلفكرة تدويل آثوس، كتراث مشترك للعالم الأرثوذكسي، تحت مراقبة ست دول أرثوذكسية (روسيا، اليونان، رومانيا، صربيا، بلغاريا، الجبل الأسود). يذكر أنّه تم إدراج بلغاريا في القائمة لوجود دير تابع لها في الجبل المقّدس. وكان لديها (أي لبلغاريا) أمل كبير في إنهاء الانقسام الحاصل مع القسطنطينية، الذي تم الإعلان عنه في عام 1872. وهكذا، كان من المفترض في ذلك المؤتمرأن يتم تحييد سيطرة اليونانيّون على الجبل وأن تتم حماية حقوق المهاجرين من كل دولة أرثوذكسية المتواجدين على الجبل المقدّس.
تعود فكرة إضفاء الطابع الدولي للجبل الآثوسي إلى وزير الخارجية الروسي سيرغي سازونوف الذي أصرّ على حياديّة الجبل المقدّس والمحافظة عليه تحت السلطة الروحية لبطريركية القسطنطينية. تضم الأراشيف الكثير من المشاريع التي تخص الترتيب المستقبلي لآثوس. لعلّ أقدمها يعود إلى القنصل الروسي في مدينة تسالونيكي بيلياييڤ الذي ينصّ على وجوب تعيّن كل دولة من الدول الأرثوذكسية الست ممثل واحداً لها يقيم في المركز الإداري للجبل المقدس (كارييس) حيث سيشكل المندوبون الست مجلساً، يجتمع بقيادة الممثل الروسي الذي سيحل محل المسؤول التركي (القائم مقام). وحيث تكون وظيفة كل مندوب مشابهة لوظيفة القنصل أي تمثيل البلد الذي ينتمي إليه. هذا المشروع كان بمثابة تنفيذ لفكرة قديمة تتمثل في إنشاء قنصلية روسية في الجبل المقّدس آثوس وهو مشروع لم يلقى الضوء في العهد العثماني. وأما الإدارة الروحيّة للجبل المقدّس (بروتاتوس) فستبقى على حالها بدون أي مساس.
المشروع الثاني الذي يعود للقنصل الروسي في بيتولا في مقدونيا بيتراييڤ. وهو عبارة عن تكرار لبنود المشروع الأوّل ولكّنه اقترح ألّا يكون آثوس جزءًا لأيٍّ من الدول الأرثوذكسية. حيث تبقى السلطة العليا في يد البطريرك المسكوني. وحل القضايا الخلافية يتم بالاتفاق بين البطريركية المسكونّية والسفارة الروسية بمشاركة دبلوماسيين من الدول الأرثوذكسية الأخرى.
مذكّرة مشروع أخرى قام بصياغته أحد موظفي السفارة في القسطنطينيّة ويدعى سيرافيموف يُعطي الأولوية للرعاية الروسية لأثوس. ويذكر أن الأديرة التي لا تنتمي إلى الروس مباشرةّ فهي توجد إمّا على حساب تلك الكنائس التابعة لها على الأراضي الروسيّة، أو على حساب الدّخل القادم من العقارات التابعة لها في روسيًا. يخلص سيرافيموف إلى أن الأديرة غير الرّوسية ستجد نفسها في المستقبل القريب في حالة من الخراب إذا انقطعت عنها المساعدات القادمة من الإمبراطوريّة الروسية. ويضيف على أن الكثير من الأديرة اليونانيّة مع مرور الوقت ستتحوّل إلى أديرة روسيّة، وبهذا "ومن خلال الحفاظ على أسلوب حياة آثوس الأرثوذكسي القديم، سيرى رهباننا أنفسهم في ظروف أفضل". وفيما يتعلق بالوضع الإداري في الوقت الحالي للجبل، فيجب على الدول الأرثوذكسية تعيين ممثلين لها في آثوس. وبالتالي، فإن الجبل سيقع تحت رعاية روسيا، ولا ينبغي للقوى الغربية أن تتدخل في شؤون مؤسسة أرثوذكسية بحتة.
قام المستشار القانوني لسفارة القسطنطينية ماندلستام باقتراح مشروعَ نصٍ قانوني مؤلفٍ من 48 صفحة يتم وفقه إعلان آثوس كمنطقة محايدة تحت القيادة الروحيَة لبطركيّة القسطنطينيّة والإدارة المشتركة للدول الأرثوذكسيّة الست. حيث يقوم ستة مفوّضين بممارسة السلطة المدنية في آثوس. وسيكون هناك من إثنين حتى إثني عشر ممثّلاً روسيّاً، وثلاثة ممثلين يونانين وممثلاً واحداً لكل دولة من الدول الأورثوذكسيّة المتبقّية. سيكون للمفوضين قوّة درك تحت تصرفهم، يتم توفيرها من قبل الدول بما يتناسب مع عدد الممثلين. أما السينيكسس (الحكم الذاتي الرهباني) فيُمنح سلطة روحية مطلقة وغير محدودة أما سلطته المادية فتكون محدودة. ووفقًا لهذا المشروع، فإنه يجب أن تتوفّر في دولة آثوس جميع مكونات الدولة أي الأرض والرعايا والسلطة التنفيذية والقضائية. وتكون العلامة الوحيدة لحمل الجنسيّة الآثوسيّة هي مكان الإقامة، وجميع الحجاج يكونون أجانباً. وللمقارنة قدّم ماندلستام أمثلة لتشكيلات مشابهة من دول أخرى: كجمهورية كراكوف (1815)، مولدافيا والأفلاق (1856)، كريت (1899). إنّ وجود مجمع تحت إدارة مشتركة من قبل ست دول بقيادة روسيا سيسمح بتجنب النزاعات الوطنية في المستقبل.
يسهب أستاذ التاريخ الكنسي أليكسي ديميتريفسكي في مشروعه في الجانب الكنسي من القضية. من وجهة نظر القانون الكنسي، فإنّه من المهم الحفاظ على سلطة بطريرك القسطنطينية. لهذا فهو يشدد على أن ضم آثوس إلى المجمع الروسي المقدس أو إلى رئيس أساقفة أثينا أمرٌ غير مقبول به. ووجد ديمتريفسكي أيضًا أنه سيكون من الملائم تقسيم الأديرة إلى أديرة رهبانية شركويّة وأخرى ذاتية (حيث يشترك الرهبان فقط في الصلوات). أمّا فيما يخص الإدارة الجماعيّة التنفيذيّة لآثوس فقد كان يعتقد أنّه من المهم إجراء بعض التعديلات لصالح الرهبان السلافيين. كما وشدد على أنّ وجود درك من العلمانيين في آثوس هو أمر غير مرغوب فيه على الإطلاق.
ولكن كيف كان رد الأطراف الأخرى المعنيّة على هذه المشاريع؟ كان من المتوقع مواجهة معارضة كبيرة من القيادات اليونانيّة. ولكن المفاوضات مع البطريرك جرمانس الخامس بطريرك القسطنطينية جرت دون أي صعوبات بالغة. وأعرب وزير الخارجية اليوناني كوروميلاس ورئيس الحكومة أليفثيروس فينيزيلوس في محادثات مع المبعوث الروسي في أثينا يليم ديميدوف عن استعدادهما لمناقشة هذا المشروع وحتى أبدوا استعدادهما لتلبية المقترحات الروسية. ولكن بحسب رأي فينيزيلوس فإن الأطراف المعنية بهذا الموضوع هي فقط روسيا واليونان ويمكنه السماح بمشاركة الممثل الصربي، لكنه اعترض بشدة على الممثل البلغاري.
كانت السلطات الروحية اليونانية أقل استيعابًا لهذه المشاريع. فقد قام رئيس أساقفة قبرص ملاتيوس ميتاكساكيس (في وقت لاحق بطريرك القسطنطينية) بالإعتراض وبشدّة على فكرة الإدارة المشتركة. وعندما تم الكشف عن خطط الحكومة الروسية في آثوس، وجّه وفداّ من 17 ديرًا يونانيًا طلبًا إلى أثينا وإلى المشاركين في مؤتمر لندن للضم الفوري لشبه الجزيرة آثوس إلى الدولة اليونانية. ردًا على ذلك، أرسل الرهبان الروس في 12 أيار 1913 رسالة إلى المشاركين في المؤتمر يطالبون فيها بتحييد آثوس وتنظيم الحكم الذاتي بحيث يتم انتخاب ممثل واحد لكل 250 إلى 300 راهب. وبالتالي، سيتم ضمان سيادة الممثلين الروس في المجامع (السينيكسس).
لكنَّ معاهدة لندن في 17 أيار 1913 أفاضت إلى تأجيل القرار بشأن وضعيّة الجبل المقدس. في تموز وآب 1913، عُقد مؤتمر للقوى في أعقاب حروب البلقان في لندن، حيث طُرحت أيضًا مسألة وضعيّة آثوس. واجه المشروع الروسي لتدويل آثوس معارضة من الإمبراطورية النمساوية المجرية. ونتيجة لذلك، تمت الموافقة فقط على الجزء الأول من المشروع، ذلك المتعلق بالسلطة الروحية لبطريرك القسطنطينية. أما الجزء الثاني أي تدويل الجبل المقدس فقد تم تأجيله مرة أخرى. ولم يتم حل هذه المعضلة حتّى في معاهدة بوخارست في 26 آب 1913، في أعقاب حرب البلقان الثانيّة.
في أيلول 1913 تم إرسال سيرافيموف إلى آثوس حيث وجد الوضع متوترًا للغاية فكانت الرهبنة الروسية في حالة قلق بشأن مستقبلها بعد إضعافها بسبب ترحيل أتباع حركة "اسم المجد" (وهي حركة انتشرت بين الرهبان الروس الذين اعتبروا أن اسم الله هو الله نفسه). وفي تشرين الأول وبدعوة من رئيس أساقفة قبرص ملاتيوس ميتاكساكيس قامت الإدارة الجماعية التنفيذية بإرسال وفدٍ إلى أثينا لطلب الضم الفوري لأثوس إلى اليونان. اعتبر سيرافيموف أن تطبيق الإدارة المشتركة في الظروف الجديدة يعتبر مستحيلاً. لهذا اقترح بديلاً عنها وهو وضع الأديرة الروسية ضمن خانة "الأفراد خارج حدود الإقليم"، مما يجعلها على قدم المساواة مع المكاتب القنصلية لروسيا في الخارج، ويضمن لسكانها الحصانة الفرديّة. ومع ذلك، فلم تتم الموافقة على اقتراح سيرافيموف من قبل السفارة الروسية. جرت المحاولة الأخيرة لمناقشة مسألة وضع آثوس في تموز 1914، عندما اقترح رئيس الحكومة اليونانية فينيزيلوس الذي كان في أمس الحاجة إلى مساعدة روسيا، على السفير الروسي في القسطنطينيّة ميخائيل غريس أن يتم تكوين إدارة روسيّة يونانيّة لآثوس دون إشراك الدول الأرثوذكسيّة الباقية. ولكن الحرب العالمية الأولى كانت سبباً في تأجيل حل هذه القضية مرة أخرى.
لم تعترف الحكومة الروسية بضم آثوس إلى اليونان حتى ثورة عام 1917. ولم يتم اعتباروضع آثوس حلاً نهائيّاً إلا في عام 1926، عندما أصدرت الحكومة اليونانية مرسومًا يفرض على جميع سكان الجبل المقدس حمل الجنسية اليونانيّة.