معلومات من تاريخ الإرساليّة في أفريقيا الأرثوذكسيّة
الكاتب: أثناسيوس زويتاكيس، مرشَّح في علم التاريخ، معلّم في كلّيّة التاريخ الكنسيّ في جامعة موسكو الحكوميّة
تجتاز الإرساليّة الأرثوذكسيّة في أفريقيا اليوم أوقاتًا عصيبة لأسباب شتّى منها: الصعوبات الماليّة، وغياب الاتّحاد بين الكنائس الأرثوذكسيّة، وعدم وجود مبشِّرين لا أنانيّين وذوي مواهب.
ومع ذلك، عُرف القرن العشرين مسرحًا لتوسّع المسيحيّة الأرثوذكسيّة في القارّة الأفريقيّة. لا تقلّل الصعوبات الحاليّة من أهمّيّة النتائج التي تمّ الحصول عليها، ورغم كلّ الظروف التي تواجهها، اليوم، فإنّ الإرساليّة تمضي في أعمالها بنجاح في بعض الأجزاء من أفريقيا. أتت الإحصاءات مثيرة للجدل، وبخاصّة في أفريقيا. ومع ذلك، فمن الجليّ أنّ هناك ما لا يقلّ عن مليون مسيحيّ أرثوذكسيّ في القارّة السوداء، ويتحدّث البعض عن 5 ملايين مؤمن (من بينهم 4.7 من الأفريقيّين الأصليّين).
إنّ صوّر الإرساليّة الأرثوذكسيّة في أفريقيا متنوّعة للغاية، فالبعض يصبح أرثوذكسيًا نتيجة اختباره نوعًا من العجيبة كالشفاء من الأمراض، وطرد الأرواح الشرّيرة، واكتشاف ينبوع ماء بصلوات الكاهن. هذا، بالإضافة إلى أنّ البعض الآخر يكتشفون الكنيسة الأرثوذكسيّة أثناء سفرهم إلى الخارج، فيأتون بها إلى منازلهم.
بدأت كلّ هذه الأحداث في العام 1929عندما ترك كاهنان من أوغندا كنيسة إنجلترا مع رعيّتهما، وحاولا تأسيس كنيستهما الخاصّة تحت شعار: "أفريقيا للأفريقيّين". ولكنّ لقاءهما بكاهن يونانيّ دفعاهما لاتّخاذ القرار في قبول الأرثوذكسيّة.
أنشأ بطريرك كنيسة الإسكندريّة خريستوفوروس الثاني (1939-1967) ثلاث مطرانيّات كبرى كإرساليّات في الشرق (تتمركز في نيروبي الكينيّة) ووسط أفريقيا وغربها.
واصل البطريرك نيقولا السادس (1968-1986) عمل سلفه، وأسّس مطرانيّتين كبيرتين: إحداها في جنوب أفريقيا (كيب تاون) والأخرى في زيمبابوي. انطبعت هذه الخطوات بالأهمّيّة عندما تمّ تعيين ممثّلين عن الشعوب الأفريقيّة الأصليّة برتبة أسقف أو مطران ما أفسح مجالًا أوسع للإرساليّة البطريركيّة.
لا يكمن نجاح الإرساليّة وراء إيثار المبشّرين فحسب، بل، أيضًا، من خلال مساعدة المؤمنين العاديّين، هذا إذا أخذنا في عين الاعتبار مثالين توضيحيّين، فقط، من العديد من الأمثلة المتشابهة. يتمّ، حاليًّا، بناء ثلاث كنائس ومستشفى ومدرسة في أوغندا بمبادرة أبرشيّة فليبيّة الصغيرة (الكنيسة الأرثوذكسيّة اليونانيّة)، وقد جمع سكّان مدينة إتيا (يبلغ عدد سكّانها أقلّ من خمسة آلاف نسمة) ما يربو على طنّين من الملابس لاحتياجات الإرساليّة، كما تمّ إرسال عدّة مئات من الصلبان الصغرى إلى جزيرة مدغشقر.
وتمضي، اليوم، الإرساليّة الأرثوذكسيّة قُدُمًا في العديد من البلدان الأفريقيّة، ومنها: كينيا، أوغندا، تنزانيا، الكاميرون، تشاد، نيجيريا، زيمبابوي، مدغشقر.
ينظر معظم المبشِّرون المسيحيّون (بما في ذلك الأرثوذكس)، بتسامح إلى المسيحيّين المتحوّلين، حديثًا، الذين يجلبون معهم إلى الحياة الكنسيّة الجديدة عناصر أساسيّة من الثقافات المحلّيّة. دعونا نعطي الكلمة لمبشِّر كاثوليكيّ من أمريكا اللّاتينيّة (لأنّ الوضع في أفريقيا يشابه الوضع هناك): "لقد أخذوا القليل من الكاثوليكيّة ... يسجد الهنود للمسيح بطريقة غريبة جدًّا ...أنا شخصيًّا، أسمح لأبناء رعيّتى أن يتصرّفوا وفقًا للطقوس المختلفة ومنها: طقس التطهير وحرق البخور وتبخير الكنيسة به. فالهنود يسجدون إلى النقاط الأساس الأربعة، ويقدّمون لله الفاكهة ويرقصون في الكنيسة، وأنا أشاركهم الرقص بنفسي ".
من الواضح أنّ المبشِّرين الأرثوذكس لا يؤثرون هذا النهج الراديكاليّ. ولكنّ البعض منهم يدعمون ما يسمّى "الانثقاف"، أي السماح للأفريقيّين بالرقص بعد الليتورجيا وإدخال عناصر ثقافاتهم في المسيحيّة.
سنخبركم، اليوم، عن طريقة التبشير الأرثوذكسيّ المتباينة تمامًا. سنتكلّم عن المشروع التبشيريّ في الكونغو (جمهوريّة زائير السابقة)، والذي قد بدأه الراهب قزما الآثوسيّ (كان اسمه في العالم: يوحنّا أصلانيديس). يبدو أنّ الظروف في هذا الجزء من أفريقيا جاءت غير مؤاتية للأرثوذكسيّة. اعتبر السكّان المحلّيّون أنّ اللون الأسود نذير للمصائب، ومع ذلك، لبس الأب قزما اللباس الأسود. كما كان يبدو أنّ الخِدَم الإلهيّة الأرثوذكسيّة الثابتة لم تتوافق والنفسيّة الأفريقيّة المعتادة على الرقصات والطقوس الصاخبة. إلّا أنّ قزما أصلانيديس لم يقدّم أي تنازلات، كما لم يعمل على تطويع الأرثوذكسيّة لتطابق الظروف المحلّيّة. لقد انعكس الإيمان الأرثوذكسيّ في شكله الأدقّ، أي في شكله "الرهبانيّ" فحقّق نجاحًا غير متوقَّعًا.
"لقد دبّر الله كلّ شيء بهذه الطريقة، فجملة المعرفة التي اكتسبتها أتت مفيدة لي في خدمتي التبشيريّة" كما أكّد، لاحقًا، قدس الأب قزما. كان على دراية جيّدة بالكهرباء والبناء والإلكترونيّات والميكانيك. تخرّج بعد دورات طبّيّة لدى الصليب الأحمر وحصل على شهادة في الغوص.
قدّم مرارًا، في وقت لاحق، المساعدة الطبّيّة للمحتاجين حتّى إنّه أنقذ أفريقيًّا صغيرًا من الموت.
ففيما كان يمرّ الأب قزما، أمس، بالقرب من البحيرة، رأى، فجأة، حشدًا كبيرًا من الناس يبكون. سقط طفل صغير من السفينة في أعماق البحيرة. فغطس الأب قزما على عمق عشرة أمتار، مرّات متكرّرة، إلى أن تمكّن، في المرّة الثالثة، من الوصول إلى الصبيّ، الذي كان مشتبكًا في خط الصيد. وهكذا استُبدل البكاء بالفرح الشامل وبشكر الكاهن الأرثوذكسيّ الذي نجّى الطفل من الموت.
في سنّ الثامنة عشرة، بدأ يوحنّا خطواته الأولى في مجال التبشير. نظّم ألوية من الطلّاب المتطوّعين لإنشاء مؤسّسات خيريّة، وساهم في التحوّل الجماعيّ إلى الأرثوذكسيّة، وبمبادرته تمّ بناء قرية وكنيسة خاصّة بهم. بمساعدة المتطوّعين، قام يوحنّا برفع الصلبان العملاقة في العديد من الأماكن في أبرشيّة فلورينا.
في العام1975 أوقف يوحنّا دراسته وهو في الثالثة والثلاثين من عمره وغادر إلى زائير. بحماسة ومعرفة واجتهاد وتصميم، قام ببناء الكنائس. بدا متعبًا جدًّا بعد عمل نهار كامل لدرجة أنّه حينما ذهب للنوم منتعلًا حذاءه، لم يتمكّن حتّى من خلعه.
بالإضافة إلى أنّه تعرّض، ذات يوم، لحرارة الشمس اللّاهبة، فعانى من صداع شديد رافقه طيلة حياته. وقال: "المناخ الأفريقيّ صعب للغاية بالنسبة للشخص الأوروبيّ. الحمّى هي حالتي الدائمة. القوّة تنفد، ولكنّك لا يمكنك التوقّف. يجب أن يستمرّ هذا الأمر".
يُعجب المبشِّرون البروتستانت والكاثوليك ببناء الكنائس الأرثوذكسيّة الواحدة تلو الأخرى. اخترع يوحنّا الطريقة التالية للبناء: فريق يبني الجدران وآخر السقف وثالث يضع النوافذ ورابع يطلي إلخ... لم يكن ينهي بناء كنيسة، حتّى يباشر بأخرى. ورغم عدم توفّر وسائل التكنولوجيا الحديثة، فلقد تمكّن بمساعدة السكّان المحلّيّين من بناء عشر كنائس جديدة.
بالإضافة إلى أنّه تعرّض، ذات يوم، لحرارة الشمس اللّاهبة، فعانى من صداع شديد رافقه طيلة حياته. وقال: "المناخ الأفريقيّ صعب للغاية بالنسبة للشخص الأوروبيّ. الحمّى هي حالتي الدائمة. القوّة تنفد، ولكنّك لا يمكنك التوقّف. يجب أن يستمرّ هذا الأمر".
يُعجب المبشِّرون البروتستانت والكاثوليك ببناء الكنائس الأرثوذكسيّة الواحدة تلو الأخرى. اخترع يوحنّا الطريقة التالية للبناء: فريق يبني الجدران وآخر السقف وثالث يضع النوافذ ورابع يطلي إلخ... لم يكن ينهي بناء كنيسة، حتّى يباشر بأخرى. ورغم عدم توفّر وسائل التكنولوجيا الحديثة، فلقد تمكّن بمساعدة السكّان المحلّيّين من بناء عشر كنائس جديدة.
في أيلول 1976 عاد يوحنّا إلى اليونان لاستكمال دراسته في المعهد اللّاهوتيّ. وفي العام 1977 قصد آثوس حيث التقى بالشيخ باييسيوس (القدّيس باييسيوس لاحقًا).
وأثناء محادثة طويلة، فتح الشابّ يوحنّا فيها قلبه للشيخ القدّيس، وأطلعه عن رغبته في أن يصبح مبشِّرًا. وبعد الصلاة، نصح الشيخ الحكيم الشابّ بأن يُرسم راهبًا في دير القدّيس غريغوريّو الآثوسيّ. وبعد الرسامة، إذ كان رئيس الدير قد نال البركة لذلك، بدأ بالإرساليّة.
في آب من السنة 1978 تمّت الرسامة الكهنوتيّة للراهب قزما، ولم يلبث أن وصل إلى كاتانغا، ثمّ توجّه إلى مكان إقامته الدائمة في كولويزي (جمهوريّة الكونغو).
عندما جاء الأب قزما إلى أفريقيا للمرّة الأولى، لم يكن يتحدّث اللهجة المحلّيّة على الإطلاق. لقد تعلّم، فقط، عبارة "ما هذا؟"، فكان يطرحها، يوميًّا، على الأفريقيّين، ويحفظ الكثير والكثير من الكلمات الجديدة. بعد أشهر عدّة، تمكّن من التحدّث بطلاقة باللغة الساحليّة. في وقت قليل أجاد اللغة التي خوّلته ترجمة الأدب الليتورجيّ. وللتبشير في المناطق النائية، اشترى الأب قزما سيّارة دفع رباعي متينة ليستطيع أن يذهب إلى القرى، ويأخذ معه بعض الطعام وخيمة. دعا الناس إليه وتحدّث معهم لساعات طويلة.
لقد تبيّن من خلال بشارة الأب قزما أنّ الأرثوذكسيّة، مع الحفاظ على تقاليدها وهويّتها، جاءت "ذكيّة" وحديثة ومواكبة للعصر. لقد كان دائم التقدّم ولو بخطوة واحدة على منافسيه وعلى الوقت كذلك. نحن نعلم، اليوم، مدى أهمّيّة الإبداع البشاريّ لشخص ما، إبّان تلك الفترة، في الصحراء الأفريقيّة، لهذا يُعتبَر الأب قزما رائدًا في هذا الإطار بلا شكّ. كان يعرض على جهاز من بطاريّة سيّارته، وحتّى وقت متأخّر من الليل، صورًا من جبل آثوس، من الأراضي المقدّسة، وعن حياة المسيحيّين الروحيّة.
وعندما حلّ الظلام، أشعل الأفريقيّون النيران وقاية من البرد، واستمرّوا في الاستماع باهتمام الكبير إلى الكاهن الأرثوذكسيّ. إنّ محبّة الأب قزما واهتمامه وتعاطفه هي أمور غير مألوفة بالنسبة إليهم، لاعتيادهم، خلال سنوات الاستعمار، على تصرّفات جدّ مختلفة للشخص الأبيض. نام الكاهن، مرّات عديدة في أكواخهم، بيد أنّه لم يستطع إغلاق عينيه من جرّاء الروائح والحشرات والفئران والأفاعي، ناهيك عن ضرب الطبول التي لم تكن لتتوقّف طوال الليل.
التفّ عشرة أشخاص من أقرب الناس للأب قزما حوله، ونظّموا حياتهم كأنّهم يعيشون في دير، فأوكل إلى كلّ واحد منهم عملًا معيَّنًا. علّم أحدهم قيادة السيّارة، والثاني إصلاح السيّارات، والثالث كهربائيًّا، أي لكلّ منهم خدمته الخاصّة به. شاركهم الأب قزما الطعام ورفع الصلوات في الكنيسة. أمّا في المساء، فكان يقرأ لهم سير القدّيسين وأقوال الآباء النسّاك كما مارسوا سرَّي الاعتراف ومناولة الأسرار المقدّسة.
أبدى الأب قزما اهتمامًا خاصًّا بالشباب، محاولًا انتزاعهم من بيئتهم، ومن انغماسهم في طقوس السحر والشعوذة. لذلك، قام ببناء مدرسة داخليّة في باحة الإرساليّة في كولويزي، تتكوّن من مبنيين كبيرين، بما في ذلك نزل ومكتبة وقاعة للقراءة. جمع، في هذه المدرسة، عددًا كبيرًا من الشباب وطلّاب المدارس الابتدائيّة والمتوسّطة والثانويّة، ولقّنهم التربية الروحيّة والعلميّة، وكيفيّة الاعترف والمناولة المقدّسة، ودرّبهم على الانضباط. وأمّا الأطفال، فقد علّمهم صلاة يسوع، ورتّب لهم لقاءات تحدّث فيها عن آباء الصحراء وسير القدّيسين.
أمسى بناء الكنائس وتعليم الرجال الدين هدفًا رئيسًا لدى الأب قزما، وتحوّلت المدرسة الداخليّة التي أنشأها مركزًا للكهنة. أراد الأب قزما إنقاذ أطفاله من الإغراءات الدنيويّة وإعدادهم تدريجيًّا للرسامة. ولذلك، أرسل الأفريقيّين إلى الأديرة في الجبل المقّدس حتّى يتمكّنوا من نقل الخبرة المكتسبة إلى وطنهم.
أعتقد الأب قزما أنّ الرهبنة مدعوّة للقيام بدور فعّال في انتشار الأرثوذكسيّة في القارّة الأفريقيّة. فأسّس بالقرب من المركز الإرساليّ، دير راهبات القدّيس نكتاريوس، وقام بالتحضير لافتتاح دير آخر للرهبان. حاول الأب قزما بكلّ الطرائق الممكنة تقوية علاقة المسيحيّين الأفريقيّين بأديرة الجبل المقدّس. إلى هذا، طبّق قوانينه في حياته الشخصيّة، وترجم أقوال الشيوخ، وسجّل على أشرطة تسجيلات للجوقات، وعرض لهم صورًا لمناظر الجبل المقدّس الطبيعيّة ورهبانه.
كمن سرّ نجاحه في مقاربته الشاملة للإرساليّة. فبالإضافة إلى برنامج بناء الكنائس، وترجمة الأدب الليتورجيّ والروحيّ، وتعليم الكهنة والمعلّمين، وكتابة رسم الأيقونات، والتطريز بالذهب والترتيل، عني الأب قزما بالتطوّر الثقافيّ والنموّ الاقتصاديّ لدى الأفريقيّين.
رسّخ صلاة يسوع في قلب الشعب الأرثوذكسيّ في الكونغو، والتي اعتبرها سلاحًا فعّالًا ضدّ هيمنة الطوائف الشيطانيّة للشامان الأفريقيّين. اقتنى الأب قزما الصلاة المستمرّة، وعلّم تلاميذه، صغارًا وكبارًا، حبك السبحة، فعادوا لا يتخلّون عنها، إنّما يهمسون بلا انقطاع: "يا ربّي يسوع المسيح ابن الله ارحمني أنا الخاطئ".
أكّد الأب قزما: "لإخوتنا الإفريقيّين عالمهم الداخليّ العميق جدًّا، لذلك كان الأوروبيّون يرتكبون خطأ جسيمًا عندما كانوا يعاملونهم بازدراء. تميل النفوس الأفريقيّة إلى التصوّف، وبالتالي فإنّ الأرثوذكسيّة لديها ما تقدّمه لهم في هذا المجال، إنّما الأرثوذكسيّة الحقيقيّة- الرهبانيّة، فقط، كما هي في الجبل المقدّس". ولإدراك مدى حجم خدمة الكاهن، سنستشهد بمداخل عديدة من ذكرياته التبشيريّة:
"في السادسة من صباح عيد الروح القدس من العام 1985، كنّا نحتفل بخدمة السحر والقدّاس الإلهيّ في قرية تبعد 220 كيلومترًا عن مركز إرساليّتنا. في طريق العودة، التقينا بمسيحيّ يحمل جثّة طفله الميت. ساعدنا في نقله إلى القرية. عدت إلى قلّايتي بعد منتصف الليل حيث كان الأب كيرلّس ينتظرني لمناقشة المشاكل العاجلة التي ظهرت أثناء رحلتي ".
"الجمعة في 6/1/89، تمّت صلاة نصف الليل في الساعة الخامسة ونصف صباحًا. أقمنا أثناء القدّاس الإلهيّ 350 معموديّة. انتهى اليوم في الساعة السابعة مساءً بعد الاحتفال بأربع وعشرين إكليلًا ..."
عندما كان الأب قزما يرى سيّارات معطّلة في منتصف الطريق، كان يتوقّف ليصلح العطل بنفسه. وإذا صدف أن نفد الوقود لدى شخص ما، كان يعود إلى مركز الإرساليّة ليحضر علبة وقود. غالبًا ما كان ينقل شخصًا ما ويساعد في نقل الشاحنة، حتّى ولو لم يكن المكان طريقه على الإطلاق.
ونظرًا إلى الحاجة إلى أموال كبيرة لتأمين النظام التعليميّ الذي يتمّ إنشاؤه (بناء المدارس، دفع أجور المعلّمين وتمويل الإرساليّة)، ولكي لا يعتمد على التبرّعات الخارجيّة، نظّم مشروعًا كبيرًا (يغطّي مساحة 30 ألف متر مربع) للزراعة والثروة الحيوانيّة والدواجن ما يؤمّن الاكتفاء الذاتيّ للإرساليّة.
أنشأ مزرعة فلّاحيّة تساعد على تطوير الخدمة الخيريّة، وقام بزيارة مستعمرة الجذام في مدينة كوزينس لمدّ المرضى فيها بالطعام والأدويّة. تجمّع هناك الجدع ومقطوعو الآذان أو الأرجل أو الأيدي. لم يتوقّع الناس هذه المساعدة المادّيّة الوافرة، إنّما كانوا ينتظرون التعاطف والمحبّة وحسب. وبما أنّ الأب قزما كان مفعَمًا محبّة، فقد شارك الجميع بسخاء. خلال مساعدته لأقربائه، لم يكن ليهتم بنفسه على الإطلاق، بل كان يسافر ليلًا لكسب الوقت ومساعدة الناس.
اعتاد كلّ سنتين أو ثلاث، أن يقصد الجبل المقدّس ليصلّي و"يولد من جديد" هناك روحيًّا، ولتلقّي الإرشادات لمزيد من النشاطات. خلال زيارته الأخيرة لجبل آثوس في حزيران من السنة 1988، دعا بشكل غير متوقَّع الراهب ملاتيوس إلى قلّايته وقال له: "ستصبح خليفتي".
وبالفعل، بعد بضعة أشهر، انتهت حياة الأب قزما المقدّسة وخدمته الشاقّة بموت مفاجئ في 27 كانون الثاني من العام 1989. فعلى بعد 55 كيلومترًا من مدينة لوبومباشي، انقذفت شاحنة من الاتجّاه المقابل وصدمت سيّارة الأب قزما. نتيجة لذلك، رقد المبشِّر على الفور، وتمّ إنقاذ رفاقه عجائبيًّا.
بالنسبة للأفريقيّين، كانت انتقال الأب قزما خسارةً فادحةً. حتّى يومنا هذا، يأتي الناس كلّ يوم للصلاة وتزيين قبر معلّمهم بالورود. في أكواخ الكونغوليّين الأرثوذكس، وإلى جانب الأيقونات، يمكنكم رؤية صورة الأب قزما. هذا وإنّ معظم الرجال المعمَّدين حديثًا يتّخذون اسم قزما في المعموديّة.
وتكريمًا للأب قزما، أُطلق على إحدى القرى في الكونغو اسم "بابا قزما" وعلى الكلّيّة التقنيّة "الراهب قزما من دير غريغوريّو". وسمّي المركز الثقافيّ والتعليميّ باسمه في مكان الحادث، ممّا ساهم في التنمية الروحيّة والاجتماعيّة للمنطقة.
يقول أبوه الروحيّ عن إرساليّة الأب قزما: "حاز بين يديه ملايين رؤوس الأموال، وانتهى فقيرًا ومعوزًا، كما يليق بالراهب الحقيقيّ". عندما وصل المبشِّر إلى الكونغو، كان هناك كاهن واحد وعشر رعايا وعدّة مئات من المسيحيّين الأرثوذكس. وأمّا بعد خدمته التي استمرّت عشر سنوات، ترك الأب قزما 14 كاهنًا وشمّاسًا و15000 معمَّدًا و48 كنيسة و55 رعيّة ومزرعة ومدرستين داخليّتين وأربع مدارس ودير واحد.
إنّما ليست الأهمّيّة في الأرقام، بل الأهمّ من ذلك بكثير أنّ إرساليّة الأب قزما لم تكن سطحيّة، بل عميقة جدًّا، إذ بعد رقاده، لم يتخلَّ الناس عن الأرثوذكسيّة.
قال خَلَف الأب قزما، الأب ملاتيوس الراهب من دير غريغوريّو في الجبل الآثوس: "قام الأب قزما بعمل باهر في أفريقيا. لقد طُبّقَت هنا قوانين الجبل المقّدس كافّة. كان جميع المسيحيّين يمسكون المسبحة بأيديهم، ويرتّلون معًا في الكنائس. يعترفون قبل المناولة المقدّسة، ويلتزمون بالصيام. وتتمّ جميع خدم الدورة اليوميّة كلّ يوم". يأتي المؤمنون في عيد الفصح وعيد الميلاد، من مناطق بعيدة إلى الكنيسة سيرا على الأقدام، يمشون مسافة تصل إلى 400 كيلومتر خلال يومين ".
قال خَلَف الأب قزما، الأب ملاتيوس الراهب من دير غريغوريّو في الجبل الآثوس: "قام الأب قزما بعمل باهر في أفريقيا. لقد طُبّقَت هنا قوانين الجبل المقّدس كافّة. كان جميع المسيحيّين يمسكون المسبحة بأيديهم، ويرتّلون معًا في الكنائس. يعترفون قبل المناولة المقدّسة، ويلتزمون بالصيام. وتتمّ جميع خدم الدورة اليوميّة كلّ يوم". يأتي المؤمنون في عيد الفصح وعيد الميلاد، من مناطق بعيدة إلى الكنيسة سيرا على الأقدام، يمشون مسافة تصل إلى 400 كيلومتر خلال يومين ".
فعلى هذا الأساس الثابت الذي أنشأه الأب قزما، واصل خلفاؤه خدمته. إنّ نجاح الإرساليّة الأرثوذكسيّة آخذ في التطوّر المطرد في الكونغو حتّى في هذه الأيّام. تمّ بناء 110 كنيسة، وهناك 78 كاهنًا وشمامسة في 159 رعية، و633 معلّمًا يقومون بالتدريس في 84 مؤسّسة تعليميّة و30000 شخص يدرسون فيها. بالإضافة إلى المدارس الابتدائيّة، هناك كلّيّات تربويّة وزراعيّة وماليّة وإقتصاديّة ومدارس لتعليم الكبار والممرضات والصم والبكم، كما افتُتح مستشفى وملجأ للفتيات في كولويزي. وكذلك شُيِّدت مدرسة إلى جانب كلّ كنيسة يلعب الطلّاب في فنائها ويشاركون في الخدمات الإلهيّة.
إنّ مثال الراهب قزما التابع لدير القدّيس غريغوريّو في الجبل المقدّس وأرساليّته الأرثوذكسيّة في الكونغو لهما قيمة جزيلة سواء للمؤمنين والعلمانيّين على حدّ سواء. تخلّص قزما من الكآبة، وفتح قلبه وشمرّ عن ساعديه، مرتكنًا إلى كلمة الله، لذلك فعل المستحيل حينما أعطى فرصةً الخلاص لآلاف المؤمنين، بفضل عمله المتفاني وإيمانه الذي لا ينضب.