أأنت أخ لي أم لا؟
الكاتب: أثناسيوس زويتاكيس، مرشَّح في علم التاريخ، أستاذ في كلّيّة التاريخ الكنسيّ في جامعة موسكو الحكوميّة
في الفترة الممتدّة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفي العديد من البلدان الأرثوذكسيّة، وجدت الكنيسة نفسها تحت إشراف الدولة، التي سعت إلى تحويلها جزءًا من العمل البيروقراطيّ. فكان على كهنة الرعيّة القيام بدور الموظَّفين من تسجيل تاريخ الولادة والإكليل إلى المساعدة في تعداد السكّان وتنظيم الانتخابات. فوق ذلك، كثيرًا ما ألحقت الدولة إليها الأراضي الكنسيّة والممتلكات الثمينة وأغلقت الأديرة.
كما أثّرت ظاهرة "العلمنة" على الشعوب الأرثوذكسيّة في البلقان: اليونانيّين والصرب والرومانيّين والبلغاريّين. لقد غلّت سياسة الحكومة يدي الكنيسة وحصرت بشدّة إمكانيّات الخدمة التبشيريّة. فانتصب أحد المطارنة اليونانيّين وعلّق على هذه المشكلة، وقال: " تتألّم الكنيسة لوجودها تحت قدمَي الدولة ... وحتّى إذا أرادت أن تعطس فهي ملزمة بطلب الإذن، أوّلاً، من الإدارة السياسيّة". وبالحقيقةً، نرى الوضع عينه يتكرّر في أيّامنا هذه في عدد من البلدان.
يمكننا القول بأنّ الخدمة الرعويّة والتبشيريّة قد تعطّلت تمامًا في ذلك الزمان، رغم حاجة المجتمع الملحّة إلى هذا النوع من العمل بما أنّه عاش تحت ضغط التعاليم الفلسفيّة الجديدة، مؤكّدًا موت حياته دون الإيمان المسيحيّ. وظهرت الإجابة على مثل هذه التحدّيات في إنشاء أخويّات أرثوذكسيّة، والتي تُعتَبَر ظاهرة فريدة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيّة، تجمّع فيها مسيحيّو البلقان، أو في مؤسّسات عامّة قويةّ لم تؤثّر على الكنيسة فحسب، بل أيضًا على شؤون الدولة لعدّة عقود. وصلت هذه الأخويّات الأرثوذكسيّة إلى أوج قوّتها في صربيا واليونان، والتي لم تزل حتّى اليوم تدوّن تاريخ البلاد وإن جاء تحت أسماء مختلفة.
حركة "الحياة"(زوي) وغيرها
يُعتَبَر "اللاهوتيّون الشعبيّون" (وهم مبشِّرون رهبان وعلمانيّون) أوّل من نجح في تثبيت التجديد الدينيّ اليونانيّ، الذين اجتمعوا مع الشعب في ساحات المدينة ليتحدّثوا عن الله والكنيسة، ولقد شكّل هؤلاء النواة الأولى للأخويّة اليونانيّة.
وعُرفت رابطة "زوي" (الحياة) للاهوتيّين كأكبر أخويّة من هذه الأخويّات، والتي أسّسها في العام 1907 الكاهن إفسيفيوس ماتفوبولوس (1849-1929). ازدهرت هذه الرابطة تحت رئاسة الأرشمندريت سيرافيم باباكوستاس في الفترة 1927-1954، حيث أصدر مجلّة بلغ عدد نسخها 165 ألف نسخة أسبوعيًّا. هذا، وقد تميّزت "زوي" بنظام داخليّ ماثل نظامًا "ألمانيًّا"، ما سمح لها بإنشاء فروع في كلّ مدينة وقرية يونانيّة تقريبًا.
وأمّا مناهج "مدارس التعليم المسيحيّ" فجاءت على نموذج مدارس انجلترا وفرنسا، وقامت "زوي" بتحقيق هذا المشروع بشكل جدّيّ سرعان ما توسّع. فلقد أسّست في العام 1926 سبع مدارس، وبحلول العام 1958 صار تحت إشرافها 2216 مدرسة يدرس فيها 147740 طالب في اليونان، و139 مدرسة تحوي 7747 طالبًا في قبرص.
كما تمّ إنشاء "اتّحاد والدي"، و"جمعيّة الأمّهات المسيحيّات"، وجمعيّة ثالثة للطلاب والباحثين وغيرها لربّات البيوت ومنظمّات أخرى مماثلة. عنيت كلّها بنشر الكتب المطبوعة بأعداد ضخمة، بالإضافة إلى انتشار شبكات الطباعة والمكتبات الرخيصة في جميع أنحاء اليونان.
وهكذا، أخذت "زوي" على الفور بتنظيم دورات عمل تدريبيّة واسعة النطاق بين شرائح مختلفة من السكّان، مع التركيز بشكل أساس على النشاط الاجتماعيّ، والانفتاح على العالم، والقرب المتعمّد من أشخاص مختلفي أنماط الحياة والقيم والاحتياجات المتعدّدة.
مجلّة "زوي" الأسبوعيّة
أرسلت "الحياة" مبشِّرين إلى المصانع والحقول، وطبعت مؤلَّفات تعليميّة خاصّة للعمّال، وأمّا المبشِّرون بالمسيح، فكانوا ينتقلون من بيت إلى بيت. لم تقترح "زوي" أي تغييرات عقائديّة أو قانونيّة إنّما قامت بمراجعة بعض نواحي التقليد الأرثوذكسيّ.
وأمّا ما يختصّ بالرهبنة، فإنّ مكتب "زوي" يقع في وسط أثينا، وتضمّ طوابقه العلويّة شققًا للرهبان من "النوع الرهبنة الحديثة": فهم يلتزمون بالنذور الرهبانيّة الثلاث (الفقر والبتولية والطاعة)، لكنّهم لا يرتدون الزيّ الرهبانيّ، لأنّ هذه المؤسسة تعتبر حياة الراهب نوعًا من التبشير. كما اعتبرت الصلاة لا تكفي بحدّ ذاتها لخدمة العالم، إنّما الحاجة إلى حياة عمليّة وتضحية مادّيّة تساند الإنسانيّة. لذا، جاء الإصلاح الليتورجيّ أساساً آخر لبرنامج "زوي"، والذي قدّم عددًا من التغييرات. أصبحت العظة في الكنيسة لدى اتباع "زوي" مركز الخدمة الإلهيّة، فيما أخذت الصلاة المركز الثاني. بالإضافة إلى ذلك، تمّ التأكيد على ضرورة الجلوس أثناء الصلوات الإلهيّة بحجّة التركيز الأوفر، وتلاوة الكاهن "الصلوات السرّيّة بصوت مسموع".
إنّ السلوك الأخلاقيّ أخذ الأولويّة لدى أتباع مؤسّسة "زوي"، لهذا كانوا حريصين على إعطاء المثل الأعلى للأخلاق والاحترام، والذي يتجلّى في المقام الأوّل في مظهرهم الخارجيّ: لباس محتشم، التحكّم في التصرّفات والمشي، وطريقة التحدّث.
نتيجةً للخلافات الداخليّة، غادر 45 من أصل 135 عضوًا من أخويّة "زوي" وشكلّوا فيما بعد رابطة "صوتير"(المخلّص). بحلول نهاية الخمسينيّات من القرن الماضي، كان هناك بالفعل العشرات من هذه الأخويّات في اليونان ("اتّحادات مسيحيّة أرثوذكسيّة"، "كفارة"، " الأقمار الثلاثة"، إلخ). ورغم بعض الاختلافات في أيديولوجيّتهم وهيكلهم، ورغم أنّها في جوهرها أفكار تقليديّة أو راديكاليّة، فقد تمّ تأسيسها جميعًا على قاعدة واحدة.
أخويّة خارج الكنيسة - الطريق مسدود أو الطريق إلى التجديد؟
غالبًا ما يسمّون مؤسّسة أرثوذكسيّة باسم "المؤسّسات غير الكنسيّة". وهذا يعود إلى رغبة مؤسّسيها في "تجديد الأرثوذكسية وتطهير الكنيسة" بنيّة صادقة. ورغم ذلك، فقد التزم البعض منهم بعبارة "مؤسّسات خارج الكنيسة أو غير كنسيّة"؟ يقع اللوم جزئيّاً في هذا على ممثّلي الأخويّات أنفسهم. كانت هذه الرابطات قائمة على أنّها مؤسّسات علمانيّة مسجلّة لدى الدولة. فكان اختيارهم منطقيًا، لأنّ أعضاء هذه الأخويّات أرادوا الاستقلال عن الأساقفة ورجال الدين في عملهم الرعويّ. تطوّرت إرادة الاستقلال هذه، بعد ذلك، إلى حدّ فصل الإكليروس والعلمانيّين إلى فئتين: "لدينا" و "غرباء"، ولذا أتى معيار "تقدّم" أيّ كاهن هو عضويّته في الأخويّة.
كان هدف الرسالة الأساس لأخويّة "زوي" هو "تحويل" أو "تجديد" الكنيسة وبالأخصّ نظام التعليم والثقافة وحتّى في المجال السياسيّ. لذلك، اعتُبر تنظيم الأعمال على النمط الجدليّ الطريقة الأكثر ملاءمة لهذا الغرض. كانت معظم أعمال لاهوتيّي "زوي" ضدّ موضوع ما أو شخص ما: الماسونيّين، والمسكونية، والهرطقات، والتحيّز، وحتّى الألعاب الأولمبيّة، كما تحوّل أعضاء الأخويّات المعارضين للشيوعيّة متحمّسين لها، والذين كانوا يُنظرون إليها على أنّها تهديد أخلاقيّ.
وساهمت أيديولوجيّة الأخويّة في تقدّمها إلى واجهة السياسة اليونانيّة في انهيار "زوي" لاحقًا. في العام 1967 أصبح أعضاء أخويّة "زوي" مطارنة الكنيسة اليونانيّة كإيرونيموس (كوتسونيس) رئيس أساقفة أثينا، بالإضافة إلى عدد آخر من الممثّلين البارزين الذين اعتلوا عرش الأسقفيّة في كنيسة اليونان الأرثوذكسيّة.
ومنذ ذلك الوقت طُبِّق برنامج الإصلاحات أو التجديدات، المستوحى من روح ومثال "الأخوة اللاهوتيّين" جنبًا إلى جنب مع الحكومة (دكتاتوريّة "الكولونيلات السود")، ونفّذ التسلسل الهرميّ برنامجًا شاملاً لتحسين "المناخ الأخلاقيّ" لليونان وتشكيل نوع خاصّ من المواطنين - صورة "مسيحيّ يوناني" لطلّاب المدارس اليونانيّة.
نظر المؤمنون باهتمام إلى أنشطة الأخويّات وانطبع في أذهانهم بأنّ الأرثوذكسية ظلّت طوال القرن العشرين هي جوهر النظرة العالميّة لمعظم اليونانيّين. ورغم بعض اللحظات المثيرة للجدل في أيديولوجيّة الأخويّة وممارستها، بقيت أخويّة "زوي" مكان تجّمع للمتطرّفين الذين سعوا إلى جعل الأرثوذكسية ملكًا وإيمانًا للجميع. ساهم نشاط "زوي" التبشيريّ في خلق جيل جديد يهتمّ بحياة الكنيسة.
دفعت خيبة الأمل من المثل العليا للمؤسّسات غير الكنسيّة، إلى نفخ الشباب حياة جديدة في الرهبنة اليونانيّة، إذ ترك عضوَي "زوي" باسيليوس هونديكاكيس وغريغوريوس هادزيمانويل، المؤسّسة في العام 1966، وقصدا جبل آثوس، حيث ساهما في إحياء ديرّي ستافرونيكيتا وإيفيرون. كما صار العديد من أعضاء المؤسّسات غير الكنسية (أخويات) في عداد الرهبان تحت رئاسة الأرشمندريتَي إميليانانوس (فافيديس) وجاورجيوس (كابسانيس)، اللذين أعادا إحياء ديرَي سيمونوبترا وغريغوريو الخاويين.
ظهر في صربيا، في بداية القرن العشرين، مؤمنون فلّاحون عاديّون تميّزوا بتديّنهم الواضح وحياتهم النقيّة راحوا يبشّرون بالإنجيل المقدَّس. لم يتغيّبوا، قطّ، عن الخدم الإلهيّة، ممارسين سرّ الاعتراف والاشتراك في أسرار المسيح المقدّسة في كلّ قداس إلهي، كما أحبّوا زيارة الأماكن المقدّسة، وإقامة الزياحات الدينيّة. فبدأ الناس يطلقون على هؤلاء الناس اسم "الحجّاج" أو "المصلّين" أو "المبشِّرين".
نشأت هذه الحركة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تكن في بدايتها حركة صربيّة مشتركة، إنّما مجموعات مختلفة من الحجّاج والمصلّين بشكل عفويّ في مناطق مختلفة من البلد، لا يتواصلون مع بعضهم البعض ولا ينسقّون أنشطتهم.
ساهم المبشِّر والكاتب البارز المثلَّث الرحمات المطران نيقولاي (فيليميروفيتش) في توحيد الحركات المتباينة في منظَّمة واحدة تحت اسم اتّحاد الشعب المسيحيّ الأرثوذكسي (تأسّس عام 1920).
وبفضله، حدثت نقطة تحوّل في موقف الأساقفة والكهنة من الأخويّات، فكتب: "حاول أن تفهم هؤلاء المصلّين. لا ترجمهم، إذ قد تصدم بحجرك المسيح عن غير قصد. لا تدفعهم بعيدًا، وهم لن يدفعوك بعيدًا".
أكّد المعاصرون بأنّ السمة المميّزة الرئيس للمصلّين هي محبّة الكنيسة، لذا لم يرغبوا في إنشاء طائفة منفصلة. كتب الكاتب الصربيّ والأب الروحيّ يوستينوس بوبوفيتش: "هذه الحركة تتميّز بالجهاد الذي تظهره للمجتمع المعاصر. للمصلّي الحقيقيّ جهاده الشخصيّ، وبخاصّة في الصلاة والصوم. فهم، تحديدًا، يعيشون المسيح وهم الأرثوذكسيّون الحقيقيّون...".
نعرف عن أسلوب حياة المصلّين بفضل شهادات المعاصرين العديدة الواردة في النشرات الدوريّة بأنّهم يتمتّعون "ببساطة بوجودهم في الكنيسة، فهم لا يشعرون بطول الصلاة بل هي تعبر كلحظة لذيذة". "عندما يتحدّثون مع بعضهم البعض، يبدون وكأنّهم يتكلّمون بلغة الملائكة المقدّسة، لأنّهم يتحدّثون، فقط، عن الموضوعات المقدّسة، وعن الأشياء الأرضيّة بقدر ما هو ضروري." "حياتهم المنزليّة تحمل ختم القداسة الدائمة. والشتائم لا تجري على شفاههم أبداً ". "المصلّون هم العنصر الأكثر ثقافة بين الناس ... بدافع محبّتهم للكتاب المقدّس، تعلّموا جميعًا، بشكل مستقلّ، قراءته بدقّة وبشكل جيّد".
يختلف المصلّون، بشكل لافت للنظر، عن الطبقات الأخرى من السكّان، ليس في أسلوب حياتهم، وحسب، ولكن أيضًا في المظهر. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما يظهر المصلّون في منظر رجل عجوز يرتدي لباسًا شعبيًّا وله لحية وشعر طويلين يسافر حافي القدمين.
علّق المصلّون الصلبان في أعناقهم، كما غطّت النساء رأسها بغطاء، وهذا لم يكن تقليدًا في المجتمع الصربيّ وإنّما اقتُبس من عادات الاحتلال العثمانيّ الذي دام خمسمائة عام.
مع إنشاء المنظمة الرسميّة للمصلّين في عام 1920، أصبح من السهل تمييزهم، بحيث لا يمكن تسمية كلّ شخص وكأنّه من حركة المصلّين، ولكن، فقط، أعضاء اتّحاد الشعب المسيحيّ الأرثوذكسيّ.
يحمل كلّ عضو في الحركة مسؤوليّات واضحة تعكس رغبة المؤسّسة كلّها في العودة إلى بساطة الحياة والصلاة. لذلك، أصبح الناس من مختلف طبقات المجتمع الصربيّ أعضاء في الحركة رغم كونهم من غالبيّة الفلّاحين.
هذا، وقد عُقدَت مؤتمرات (مجالس) سنويّة لحركة المصلّين كفرصة خاصّة للصلاة واتّخاذ القرارات بشأن أنشطتهم المستقبليّة. وبالإضافة إلى أعمال نشر المجلّات وفتح المكتبات، انخرطت حركة المصلّين في عمل تبشيري نشط أدّى إلى نموّ الأخويّات المنظَّمة في جميع أنحاء صربيا.
وكمثل الأخويّات اليونانيّة، شاركت الحركات الصربيّة، في كثير من الأحيان، في الأعمال الخيريّة كتنظيم صناديق مؤن للفقراء والمرضى والأيتام والأرامل. كما افتتحوا دورات تدريبيّة لمربّي النحل والنسّاجين واعتنوا بالمرضى وزيارة الأسرى.
من المثير للاهتمام أنّ المصلّين تابعوا بحماس أنشطة الأخويّة اليونانيّة الأرثوذكسيّة، معتبرين أعضاء الأخويّات اليونانيّة كأشخاص يشاطرونهم التفكير.
في 28-29 آب 1933 انعقد أكبر مجلس للمصلّين في تاريخ الحركة في دير كوفيل، حيث فيه اجتمع أكثر من 5000 شخص من جميع أنحاء البلد في اليوم المحدَّد وحضره الأساقفة ورئيس الكنيسة الصربيّة البطريرك برنابا. تحدّث التقرير الذي تمّت مراجعته في مجلس كوفيل، عن نجاح أعمال أعضاء الحركة: "تمتلئ الكنيسة بالمؤمنين كلّ يوم أحد وتحتشد في الأعياد الكبرى. من كلّ هذا نستنتج أنّ مستوى محبّة الكنيسة قد تزايد في مجتمعنا في سائر أنحاء الدولة ... ".
في العام 1939 تمّ تسجيل 450 حركة في مكتب اتّحاد الشعب المسيحيّ الأرثوذكسيّ في كافّة مناطق الدولة. وبلغ نسبة أعداد مجلّة "المبشِّر" للمصلّين 150 ألف نسخة، كما تجاوز عدد المصلّين 200 ألف شخص وشارك عدد متزايد من الكهنة في أعمالها وتولّوا قيادتها.
للأسف، لم يسمح اندلاع الحرب العالميّة الثانيّة للحركة بتطوير وتعزيز النجاح الذي حقّقته في أوائل الأربعينيات. وقد كان جزء من السبب في ذلك هو موقف بعض المصلّين الذين قاموا بنشاط سياسيّ ودعموا القوى الراديكاليّة المناهضة للشيوعيّة.
أمّا في يوغوسلافيا، فلم تتمكّن حركة المصلّين بعد الحرب من مواصلة نشاطها بشكل مستمرّ. لم تسمح السلطات الإلحاديّة بالأنشطة التبشيريّة لممثّلي الكنيسة. ومع ذلك، كانت أخويّات المصلّين، التي أصبحت "الخميرة الروحية" التي ساهمت ببقاء الكنيسة الصربيّة على قيد الحياة لسنوات عديدة رغم قيود الدولة وقمعها. وفي أوائل سنوات ما بعد الحرب، كان جميع المرشَّحين للمعاهد اللاهوتيّة الصربيّة يتحدّرون من عائلات أعضاء هذه الحركة، وينطبق الشيء نفسه على المبتدئين في الأديرة، وبخاصة أفراد الأديرة الجدد.
بعد الحرب العالمية الثانية، كان لا يزال هناك عدد من أخويّات المصلّين، بيد أنّ قيود الدولة جعلت وضع نشاطهم على قدم المساواة مع نشاط حركة ما قبل الحرب غير ممكن. الشيء الوحيد الذي لم يتغيّر هو التقوى الشخصيّة لهؤلاء المؤمنين، والتي أصبحت المصدر الذي غذّى الكنيسة الصربيّة بعد الحرب.
الوضع الحاليّ
لا تزال الأخويّات الأرثوذكسيّة موجودة في اليونان اليوم، ولا يزال ورثة حركة المصلّين يعملون في صربيا. لكنّ بروزهم وتأثيرهم لا يضاهيان أسلافهم الأقوياء.
ومع ذلك، ففي السنوات الأخيرة، عملت الأخويّات الأرثوذكسيّة للكنيسة الصربيّة على تعزيز مواقفها وأنشطتها. ويرجع هذا، إلى حدّ كبير، إلى الضغط السياسيّ القوي على الكنيسة الأرثوذكسيّة الصربيّة، وينطبق هذا الحال أيضًا على كوسوفو وعلى الأحداث الأخيرة في الجبل الأسود.
أمّا في روسيا، فانتشرت أيضًا ظاهرة الأخويّات الأرثوذكسيّة. لكنّها لم تأتِ بمثل قوّة البلقان (إلى حدّ كبير بسبب ثورة 1917) من حيث النفوذ والشخصيّة الجماهيريّة. وعلى هذا، لا يمكن أن نجعل الأخويّات الروسيّة في القرن التاسع عشر على قدم المساواة مع أخويّات البلقان.