كيف تمّ تكوين "نظام الشرف" في الكنائس الأرثوذكسيّة
من نظام البطريركيّات الخمس إلى نظام "الذيبتيخا"
تعتبر الكنيسة الأرثوذكسيّة الربّ يسوع المسيح رئيساً وحيداً للكنيسة وله "كلّ سلطان في السماء وعلى الأرض" (متّى 28: 18). وإذا كان لبابا روما على الكنيسة الكاثوليكيّة "سلطة كاملة وسامية وشاملة" بصفته "نائب المسيح" (تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، ص. 882)، ففي التقليد الأرثوذكسيّ، يُعتبر رؤساء الكنائس المحلّيّة المستقلّة متساوين في الكرامة الأسقفيّة، ولكن يوجد، في الوقت نفسه، بينهم "نظام شرف" معيّن، يتمّ بموجبه ذكر أسمائهم خلال القدّاس الإلهيّ حسب نظام "الذبتيخا". فكيف تطّور هذا التقليد القديم؟
أولويّة المسيح ورسله في الكنيسة
بحسب ما ورد في الأناجيل المقدّسة، لم يفرز الربّ يسوع أي "قائد" بين الرسل ولم يميّزه بحقوق خاصّة على الآخرين. علاوةً على ذلك، أوقف يسوع المسيح، بشدّة، محاولات التلاميذ لمعرفة أيّهم الأفضل (لوقا 28: 22-24)، و(متّى1: 18) ، حينما قال لهم: "وأكبركم يكون خادماً لكم. فمن يرفع نفسه يتّضع ومن يضع نفسه يرتفع" (متّى 23: 11-12) و"بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر. والمتقدّم كالخادم" (لوقا 22: 26). كما أعطى، بعد ذلك، نفسه مثالاً للسلطة المرتكزة على هذا المفهوم السامي عندما غسل أقدام الرسل في العشاء السرّيّ.
لم يتمكّن الوثنيّون من إدراك مفهوم هذا النظام، الذي بحسبه كلّما تمتّع المتقدّم بسلطة أعلى، كلّما خدم مرؤوسيه أكثر. ولكنّ ظروف "هذا العالم" لا تجعل إمكانيّة هذا النظام فاعلة. ومع ذلك، فلقد ساد في كنيسة المسيح المقدّسة مبدأ المحبّة لمدّة ألفي عام، وهو عكس مفهوم القوّة العالميّة المبنيّة على السلطة والكبرياء. والمثل الأعلى للسلطة في الكنيسة هو الراعي الصالح الوارد في الكتاب المقدّس، الذي وضع حياته من أجل خرافه: "وأنا أضع نفسي عن الخراف" (يوحنّا 10: 11).
يصف القدّيس بولس الرسول خدمة الأسقف الكنسيّة بمن (يدبّر بيته حسناً) وخدمة الشمّاس بقوله: (لأنّ الذين تشمّسوا حسناً يقتنون لأنفسهم درجة حسنة) (1تيموثاوس 3). تعذّر، في البداية، تمييز خدمة الأسقف عن تلك التي للكهنة ("الأقدم") الذين ترأسوا على الجماعات الأولى خلال العصر الرسوليّ (أعمال 15: 23-16: 4). غير أنّه منذ مطلع القرن الثاني حصل الأساقفة على السلطة الوحيدة بما يتعلّق "بالربط والحلّ" على مدى الحياة، كما ترأسوا الاجتماعات الإفخارستيّة كخلفاء الرسل وأقاموا الصلاة من أجل المؤمنين.
في الصورة: الرسولين القدّيسين بطرس وبولس. فسيفساء على ضريح غالا بلاسيديا (القرن السادس، رافينا)
حظي أسقف روما بفرص خاصّة في القرن الثاني - وروما هي عاصمة الإمبراطوريّة ومكان دفن الرسولين الأوّلَين، بطرس وبولس - وصار يُعتبر الأسقف الأكثر نفوذاً ليس، فقط، داخل الإمبراطوريّة الرومانيّة، بل وخارجها أيضًا.
مجامع الكنيسة الجامعة
وفي حلول القرن الثالث، ظهرت اجتماعات معيّنة (مجامع) لأساقفة بعض المقاطعات الرومانيّة (ما يسمّى في اليونانيّة "بالأبرشية") برئاسة أسقف المدينة الرئيسيّة – (والتي يُطلَق عليها اسم المطرانيّة). كان من واجب الأسقف أو المطران المتقدّم التشاور مع أساقفة مقاطعته، وكان عليهم تكريمه كرئيس.
وفي العام 325، دعا الإمبراطور المسيحيّ الأوّل قسطنطين الكبير الأساقفة إلى مدينة نيقية بمناسبة الذكرى السنويّة لحكمه. واعتبارًا من هذا الاجتماع بدأت سلسلة الاجتماعات غير العاديّة للأساقفة والتي عُقدت تحت إشراف سلطات الدولة لمناقشة المشاكل الكنسيّة. صاغت سبعةُ مجالس مسكونيّة في الفترة الممتدّة ما بين القرنين الرابع والسابع الأسسَ العقائديّة والقانونيّة للكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة (كمبادىء "الأرثوذكسيّة" و"الكاثوليكيّة").
ومن جرّاء تجمّع أساقفة الأمبراطوريّة في هذه المجامع المسكونيّة أصبحت الحاجة ماسّة إلى هرميّة الإدارة الكنسيّة خلال الشعائر الدنيّة. في العام 325، اتّخذ المجمع المسكونيّ الأوّل الملتئم في نيقية قرارًا باحتلال الأساقفة المرتبة الأولى نظرًا لهيبتهم الشخصيّة (القرار السادس):
تخضع سيادة مصر وليبيا والمدن الخمس لسلطة أسقف الإسكندريّة بما أنّ هذه العادة مرعية لأسقف روما، ويُحفظ، كذلك التقدّم للكنائس في الأبرشيّات الأخرى.
بيد أنّ بابا روما سيستخدم، في وقت لاحق، هذا القرار المجمعيّ في سبيل تثبيت مزاعمه بما يتعلّق بالأولويّة. ومن المثير للاهتمام أنّ هذا القرار في النسخ اللّاتينيّة القديمة يبدأ بكلمات غير موجودة في النسخ اليونانيّة: "يتميّز الكرسيّ الرومانيّ بالأولويّة دائمًا". بينما يتحدّث هذا القانون، في الواقع، عن الاعتراف بحقوق أساقفة المدن الكبرى، فقط، وبما يتعلّق بأساقفة المقاطعات المجاورة.
في الصورة: المجمع المسكونيّ الثاني (الصورة من القرن العاشر)، الكراسي الكنسيّة في بداية القرن الرابع
إثنان روما
وجاء تأسيس القسطنطينيّة في العام 330 تحدّيًا للتقليد السياسيّ والكنسيّ القديم، إذ بحسب هذا التقليد لا يمكن أن يكون لروما أي منافسين. لم تُعتبر "المدينة الأبديّة" رمزًا لقوّة "تفوق" الأمّة الرومانيّة، وحسب، بل باعتبارها ضامنًا مقدَّسًا لوجود العالم نفسه، ولهذا فقد اعتقد الكتّاب المسيحيّون أن إضعاف روما سيؤدّي إلى كارثة عالميّة. وهكذا ظهرت روما الجديدة في الشرق، وانتقل إليها الإمبراطور نفسه.
يتطلّب تأسيس العاصمة الجديدة مراجعة نظام "ميّزات" الكراسي الكنسيّة المحدَّدة خلال مجمع نيقية. كان أسقف مدينة "بيزنطة"، التي بنى فيها قسطنطين الكبير روما الجديدة، أسقفًا عاديًّا لمقاطعة تراقيا، تابعًا لمدينة عاصمتها هرقل. لكنّ هذا الوضع لم يتوافق بأيّ شكلٍ من الأشكال مع عاصمة الإمبراطوريّة، التي سرعان ما تحوّلت بسرعة إلى عاصمة. وفي المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية (381) تمّ تبنّي القانون التالي (القانون الثالث):
ليكن لأسقف القسطنطينيّة الكرامة الأولى بعد الأساقفة لكونها روما الجديدة.
وبهذا صارت روما الجديدة مساوية لروما القديمة ليس، فقط، في المرتبة السياسيّة، وإنّما في المرتبة الكنسيّة أيضًا. ومع ذلك، لم يتمّ توضيح طبيعة "ميّزات الشرف" التي حصل عليها أسقف القسطنطينيّة حسب نصّ قانون المجمع، ممّا أدى إلى سلسلة من النزاعات. وفي هذا الصدد، بدأ أساقفة القسطنطينيّة، الذين لم تكن لديهم رعايا خاصّة بهم، ببسط سلطتهم، بقدر ما تسمح لهم الظروف، ما حدا بالمدن الكبرى المجاورة أن تحتجّ. لذا، أتى ردّ فعل مدينة أفسس، بخاصّة، عنيفًا جدًّا، وهي المدينة الضخمة في آسيا الصغرى، التي تفخر بمرتبتها ككرسيّ القدّيس يوحنّا اللّاهوتيّ.
في الصورة: القدّيس مرقس الإنجيليّ، القرن الثالث عشر
أمّا في الغرب، فلم يتمّ الاعتراف، على الفور، بمسكونيّة المجمع الثاني، وتجاهل الباباوات القانون المذكور أعلاه، واستمرّوا في اعتبار العروش الثلاثة الواردة في قانون نيقية على أنّها العروش الرئيسيّة، وهي: روما والإسكندريّة وأنطاكية. هنا تمّ التركيز على العادات القديمة، التي هي سمة من سمات الوعي الرومانيّ، والميل إلى رفع سلطة هذا الكرسيّ أو ذاك إلى الأزمنة الرسوليّة. فالقدّيسان بطرس وبولس هما اللذان أسّسا الكنيسة الرومانيّة، كما عملا، أيضاً، في أنطاكية. وأمّا القدّيس مرقس الإنجيليّ، تلميذ الرسول بطرس، فأسّس عرش كنيسة الإسكندريّة. فما هي الميزة التي تفتخر بها مدينة "بيزنطة"، التي كانت مدينة صغيرة؟ ستظهر، بعد عدّة قرون، أسطورة تقول إنً القدّيس الرسول أندراوس زار البيزنطة، وهذا ما جعل القسطنطينيّة تتحوّل إلى كرسيّ رسوليّ، علاوةً على ذلك، فقد أسّسها أوّل رسول، الأخ الأكبر للقدّيس بطرس.
القانون 28 لمجمع خلقيدونية وقضاء القسطنطينيّة
إنّ إنكار أهمّيّة القسطنطينيّة في المجال الكنسيّ بدا مستحيلاً، وبخاصّةً بعد تقسيم الإمبراطوريّة الرومانيّة في العام 395، عندما بدأ النصف الغربيّ منها في التدهور بشكل ملحوظ. بالإضافة إلى ذلك، فلقد كان مطلوبًا تقرير حدود الولاية القضائيّة لكرسي "روما الجديدة" رسميّاً، لكي لا يغزو "بطريركها" المناطق الغريبة (ولهذا السبب تمّ تعيين الأساقفة الرئيسيّين منذ القرن الخامس). ففي العام 451، أصدر المجمع المسكونيّ الرابع في خلقيدونية عدّة قوانين مهمّة، وجاء أهمّها، بوجه خاصّ، القانون الثامن والعشرون:
"إنّنا إذ نتبع في كلّ شيء ما سنّه الآباء القدّيسون، نقبل القانون الذي قُرئ الآن، والذي وضعه الأساقفة ال150 المحبوبون من الله المجتمعون في مدينة القسطنطينيّة الملكيّة، روما الجديدة، في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس السعيد الذكر. لهذا، نحدّد نحن، أيضاً، كلّ ما يختصّ بالإمتيازات لكنيسة القسطنطينيّة المقدّسة وهي روما الجديدة، لأنّ الآباء كانوا محقّين بمنحهم الامتيازات لعرش روما القديمة، لكونها المدينة الملكيّة. وهذا الاعتبار نفسه هو الذي حمل الأساقفة ال150 الجزيلي التقوى على منح امتيازات معادلة لعرش روما الجديدة المقدّس. كما قضوا بالعدل بأنّ المدينة، التي صارت جديرة لتكون مقرّاً للملك ومجلس الشّيوخ، أن تتمتّع بامتيازات معادلة لامتيازات رومه المدينة الملكيّة القديمة، وأن تُعظّم مثلها في الشؤون الكنسيّة، وتكون تالية لها في الرّتبة. وهكذا في أبرشيّات البنطس وآسيا وثراقية، يقوم عرش كنيسة القسطنطينيّة المقدّس برسامة المطارنة، فقط، وكلّ أساقفة الأبرشيّات الواقعة في ما بين البربر. ويتمّ بالتحديد تعيين أساقفة المقاطعات من قبل كلّ مطران من الأبرشيّات المذكورة أعلاه جنبًا إلى جنب مع أساقفة المقاطعات، وفقًا لما تحدّده القواعد الإلهيّة؛ كما يتمّ، أيضًا، تعيين مطران الأبرشيات المذكورة أعلاه، كما ذكرنا سابقًا، من قبل رئيس أساقفة القسطنطينيّة، بعد إجراء الإنتخاب المناسب وفقًا للعرف وأخطاره
إنّ هذه القوانين في غاية الأهمّيّة، لأنّ بعض لاهوتيّي القرن العشرين حاولوا تثبيت نظريّة الولاية الكنسيّة العالميّة للقسطنطينيّة (اسطنبول). ولكن قراءة هذه النصوص بجدّيّة تكفي للتأكّد من عدم وجود أيّ ذكر ل"ولاية عالميّة". بل على العكس من ذلك، فإنّ آباء المجمع حدّوا من سلطة رئيس أساقفة القسطنطينيّة بما يتعلّق بحقّ تعيينه مطارنة الأبرشيّات الثلاثة، وكذلك أساقفة الرعايا الأجنبيّة في هذه الأبرشيّات. ففي الإمبراطوريّة الرومانيّة، في ذلك العهد، تواجد العديد من القبائل الجرمانيّة والقبائل الأخرى التي استقرّت في الإمبراطوريّة كحلفاء لها؛ ولم يُحسبوا ضمن الهيكليّة الإداريّة الإمبراطوريّة وكان يرأس كنائسهم أساقفة خاصّون تابعون مباشرة للبطريرك.
لذلك، فالقانون الثامن والعشرون للمجمع الخلقيدونيّ عادل ما بين امتيازات روما القديمة وروما الجديدة، كما حُددت فيه ثلاث أبرشيّات تابعة لنطاق السلطة الكنسيّة للقسطنطينيّة - آسيا والبنطس وثراقية.
"البطريركيّات المسكونيّة" الخمس
تمّ هذا المجمع الخلقيدونيّ اتّخاذ قرار هامّ آخر وهو تحديد مدينة القدس المقدّسة كمنطقة كنسيّة خاصّة. وهكذا تشكّلت الكراسي الخمس الرئيسيّة للإمبراطوريّة الرومانيّة، والتي مُنح رؤساؤها لقب البطاركة وهي: روما والقسطنطينيّة والإسكندريّة وأنطاكية والقدس. فكانت لمناطق نفوذهم علاقة مختلفة تماماً بالتقسيم الإداريّ: فلقد قُسِّمت الإمبراطوريّة الغربيّة بأكملها مع محافظة إيليريكوم القريبة من روما إلى عدّة مقاطعات صغيرة تحاذي القدس. ومع ذلك، فإنّ "البطريركيّة الغربيّة" الواسعة الأرجاء كانت خيالاً تقليديّاً: في القرن الخامس، لم تعد الإمبراطوريّة الرومانيّة موجودة، وكانت سيطرة روما على الهياكل الكنسيّة للممالك البربريّة التي نشأت على أنقاضها وهميّة. علاوة على ذلك، فلقد منعت الكنيسة اللّاتينية في أفريقيا النداءات "خارج البحر"، أي إلى روما (قوانين مجمع قرطاجة 32، 37، 118، 139)، وطالب رئيس أساقفة أكويليا (غرادو، البندقية) بلقب البطريرك.
يناشد الإمبراطور يوستينيان الكبير روما والقسطنطينيّة بصفتهما الكرسيّين الرئيسيّين للإمبراطوريّة (مرسوم عام 533 ؛ الرواية رقم 131 عام 545). وانخفض ثقل الكنيسة الكاثوليكيّة والرسوليّة في موافقة الخمسة "بطاركة المسكونة القدّيسون" والأساقفة التابعين لهم (109 رواية 541 سنة). وفي نفس الوقت، يضيف اللقب الفخريّ "البطريرك المسكونيّ" إلى لقب "رئيس أساقفة القسطنطينيّة"، والذي أكّد على مكانة روما الجديدة كواحدة من البطريركيّات المسكونيّة كما سميت الإمبراطورية الرومانية البهيّة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تقسيم الكنيسة إلى البطريركيّات الخمسة لم يكن مطلقًا: إذ لم تأخذ في الاعتبار كنيسة قبرص المستقلّة ، ولا الكرسي الأسقفيّ الخاصّ الذي أسسه جستنيان نفسه في عام 545 في مسقط رأسه يسوتينيانا الأولى، ناهيك عن الكنائس الواقعة خارج الإمبراطوريّة.
نظام البطريركيّات الخمس في بيزنطية الوسطى
تمّت الصياغة النهائيّة القانونيّة لنظام البطريركيّات الخمس في العام 692 في المجمع المسكونيّ الخامس - السادس (ترولّو). ينصّ القانون 36:
إنّنا نجد هنا السنن التي وضعها الآباء ال150 المجتمعون في المدينة الملكيّة المحروسة من الله، والآباء ال230 الملتئمين في خلقيدونية، ونقرّر: يجب أن تكون لكرسي القسطنطينيّة امتيازات مساوية لامتيازات كرسي روما القديمة، وأن يكون له الاعتبار العظيم في القضايا الكنسيّة كما لذاك ويأتي الثاني بعده، ويليه كرسي الإسكندريّة ثمّ كرسيّ أنطاكية فكرسيّ أورشليم.
أمّا في الغرب فلقد تمّ قبول الترتيب المختلف "للكراسي الرئيسيّة". في "هديّة قسطنطين" (وهو التزوير المشهور (من القرن الثامن)، الذي يوضح حقوق الباباوات في السلطة العلمانيّة)، تُذكر الإسكندريّة وأنطاكية والقدس والقسطنطينيّة على أنّها تابعة لروما. لم يشعر مؤلِّف هذا التزوير الوارد في العصور الوسطى بالحرج من حقيقة ظاهرة بأنّ "المرسوم" مؤرَّخ في السنة 315، عندما لم يكن للقسطنطينية وجود حتّى في أوراق المسودة: كان من المهمّ بالنسبة إليه أن يضع "المتقدّم" في المركز الأخير. أكّد الباباوات، أكثر من مرّة، على المكانة الثانويّة للقسطنطينيّة كسلطة أبويّة، واحتجّوا على لقب "المسكونيّ"، الذي كان ثابتاً لكرسيّ القسطنطينيّة في العصر البيزنطيّ. في القرن السابع، غزا العرب جميع الكراسي الشرقيّة الأخرى، وظلّت القسطنطينيّة البطريركيّة المسكونيّة الوحيدة على أراضي الإمبراطوريّة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ البطاركة الآخرين لا يزالون يُعتبرون أساقفة رئيسيّين للكنيسة الجامعة الواحدة. ورغم أنّ الكتّاب البيزنطيّين فسّروا نظام "البطاركة الخمس" على أنّها الكنيسة الأساسيّة الكاملة، على غرار الحواسّ الخمس للإنسان، إلّا أنّه لم تُفهم أبدًا كمجموعة مغلقة. وفي الفترة الممتدّة بين القرنين العاشر والثالث عشر، ظهرت كنائس مستقلّة لا تنتمي إلى هذا النظام من بينها بلغاريا وصربيا. ومن الغريب أنّ سقوط روما في القرن الحادي عشر لم يغيّر هذا المفهوم أيضًا: يتحدّث ثيودوروس بالسامون (القرن الثاني عشر) ومتّى بلاستار (القرن الرابع عشر) عن تقسيم العالم بين البطاركة الخمس، "دون حساب للكنائس الصغيرة".
موسكو بدلاً من روما
وأمّا رفع متروبوليت موسكو إلى الرتبة البطريركيّة من قبل بطريرك القسطنطينيّة أرميا الثاني (1589)، والمصدَّق من قِبل مجامع بطاركة الشرق بين العامين (1590-1593)، فقد أحدث مفهوماً جديداً لمبدأ "البطاركة الخمس". ولقد كتب عن هذا أيّوب بطريرك موسكو وسائر روسيا، قائلاً:
"إنّنا نعتبر قداسة السيّد العظيم إرميا رئيس أساقفة القسطنطينيّة - روما الجديدة والبطريرك المسكونيّ هو الأب المتقدِّم بدلاً من البابا، ويليه بعد ذلك أربعة بطاركة: الإسكندريّة وأنطاكية والقدس ثمّ مدينة موسكو حاكمة المملكة الروسيّة .
أصدر مجمع العام 1590 قانوناً ينصّ على أنّ بطريرك القسطنطينّية هو من الآن فصاعدًا الأوّل، وأنّ بطريرك موسكو هو البطريرك الخامس. وفي مجمع عام 1593، أصدر نصّاً آخر أُعلنت فيه موسكو بطريركيةً احترامًا للوضع السياسيّ في روسيا: "بما أنّ الله كرّم هذه الدولة كمملكة".
في الصورة: الصفحة الأولى من قانون مجمع القسطنطينيّة في العام 1593 حول إنشاء بطريركيّة في موسكو
وهكذا، نالت موسكو الكرامة الأبويّة كعاصمة للمملكة الأرثوذكسيّة الوحيدة في العالم - تمامًا كما حدث مع القسطنطينية سابقًا. ومع أنّها لم تربُ إلى مستوى مساو لها، بيد أنّها حصلت على الرتبة الخامسة بين البطريركيّات الخمس.
وفي ذلك الوقت، وُجدت أربع بطريركيّات شرقيّة على الأراضي التابعة لأكبر دولة في العالم الإسلاميّ، الإمبراطوريّة العثمانيّة. ومع ذلك، كان بطريرك القسطنطينيّة يتمتّع بالحقوق الكاملة كرأس الملّة الأرثوذكسيّة ما منحه فرصًا خاصّة. ولكن عندما انتهك الفنار (منطقة في اسطنبول حيث يقع المقرّ البطريركيّ) الحقوق الكنسيّة للكنائس الشقيقة: الإسكندريّة وأنطاكية والقدس، تلقّى رفضًا قاطعًا.
مطالب جديدة للقسطنطينيّة والموقف الرسميّ للكنيسة الروسيّة
في القرن العشرين، وبعد تأسيس الجمهوريّة التركيّة وتهجير السكّان اليونانيّين من آسيا الصغرى، بدا وضع القسطنطينيّة صعبًا للغاية. فقرّر البطاركة المسكونيّون، بمساعدة الوفاق الثلاثيّ، تحويل لقبهم الفخريّ إلى منصب "البطريرك المسكوني". غير أنّ الوضع في الكنيسة الروسيّة ظهر أصعب بعد تعرّضها لاضطهادات غير مسبوقة، إذ بدأت القسطنطينيّة، بطريقة أحاديّة الجانب، مناهضة القوانين لتفرض هيمنتها على الكنائس الأرثوذكسيّة المحلّيّة التي تأسّست حديثًا في أوروبا الشرقيّة و"ولايتها القضائيّة العليا". وبإعادة تفسير القانون الخلقيدونيّ الثامن والعشرين، بدأ الفنار باعتبار جميع الشعوب التي لم يكن لها كنائس أرثوذكسيّة قديمة "برابرةً"، بالنسبة إليها، متوخّياً توسيع سلطته عليها.
في الصورة: البطريرك برثلماوس الأوّل، المجمع الكريتيّ 2016، إيلبيذوفوروس رئيس أساقفة أمريكا
ولم يكتفِ بطاركة القسطنطينيّة بالوضع القانونيّ والتقليديّ كـ "الأوّل بين متساوين"، إذ تطلّعوا إلى الحصول على رتبة "أسقف العالم"، أو "الأوّل دون المتساوين". وأحد أتباع هذا المفهوم هو رئيس أساقفة أميركا إلبيذوفورس لامبرينياديس. وتمثّلت إحدى الخطوات المهمّة في هذا المسار بتنظيم وانعقاد "المجمع الأرثوذكسيّ الكبير المقدّس" في جزيرة كريت في العام 2016، الذي انعقد رغم معارضة عدد من الكنائس الأرثوذكسيّة. فهذا الانعقاد كان فرصةً لمنح القسطنطينيّة حقّ "المنسّق" "لجميع الكنائس الأرثوذكسيّة الأخرى. يمكن الحكم على طبيعة هذا "التنسيق" من خلال تصرّفات البطريرك برثلماوس بما يتعلّق بالكنيسة الأرثوذكسيّة غير القانونيّة في أوكرانيا. تنتهك هذه الأعمال، بشكل صارخ، القوانين القديمة التي أثارت، ولا تزال، الارتباك للكنيسة الأرثوذكسيّة الموحدة.
وأمّا الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، فإنّها تحافظ، بثبات، على المبدأ الرسوليّ الجامعيّ، وتعترف بمساواة الحقوق الكنسيّة لرؤساء جميع الكنائس المحلّيّة المستقلّة والبالغ عددها 15، وبينها القسطنطينيّة والإسكندريّة وأنطاكيّة والقدس والروسيّة والجورجيّة والصربيّة والرومانيّة والبلغاريّة وقبرص واليونان والألبانيّة والبولنديّة والتشيكيّة وسلوفاكيّة والأمريكيّة. كل هذه الكنائس الشقيقة هي أعضاء متساويّة لدى كنيسة المسيح الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة.