حول الموقف الأرثوذكسيّ فيما يتعلّق بالتشريع الجديد لمباركة "الأزواج الذين هم في وضع معلّق وزواج المثليين" في الكنيسة الكاثوليكيّة
ببركة قداسة البطريرك كيريل، بطريرك موسكو وسائر روسيا، فنّدت اللجنة اللّاهوتيّة في الكنيسة الروسيّة المستند الخاصّ "حول الموقف الأرثوذكسيّ فيما يتعلّق بالتشريع الجديد لمباركة "الأزواج الذين هم في وضع معلّق والأزواج المثليّين" في الكنيسة الكاثوليكيّة". وجاء فيه:
حول الموقف الأرثوذكسيّ فيما يتعلّق بالتشريع الجديد لمباركة "الأزواج الذين هم في وضع معلّق وزواج المثليين" في الكنيسة الكاثوليكيّة
المقدّمة
يطرح المستند «Fiducia supplicans» (ويعني باللّاتينيّة "الدعوة للثقة") مباركة جديدة لـ "الأزواج في وضع معلّق والمثليّين"[1]، التي قبلها مجمع العقيدة والإيمان في الكنيسة الكاثوليكيّة. نشرت هذا المستند مصادر الفاتيكان الرسميّة في الثامن عاشر من كانون الأوّل لعام 2023. وقد وقعه كلّ من رئيس المجمع الكاردينال مانوئل فرنانديز وأمين سرّ القسم العقائديّ أرماندو ماتيو، ثمّ وافق عليه ووقّعه رئيس الكنيسة الكاثوليكيّة البابا فرنسيس.
صدر هذا المستند "Fiducia Suplicans" (هو ردّ على أسئلة مؤمني الكنيسة الكاثوليكيّة بشأن بيان مجمع العقيدة والإيمان حول مباركة "الأزواج المثليّين") بتاريخ الثاني والعشرين من شباط للعام 2021[2]، والذي نصّ بشكل واضح على استحالة مباركة "زواج المثليّين".
وأمّا في هذا المستند الجديد لمجمع العقيدة والإيمان، والذي وافق عليه البابا فرنسيس، فقد تغيّر الموقف بشكل كامل، واقترح الاعتراف بمباركة الأزواج في "وضع معلّق" و"المعاشرة بين نفس الجنس" قدر الإمكان بموجب شروط معيّنة.
تمثّل الأفكار الواردة في "Fiducia Suplicans" انحرافاً كبيراً عن التعاليم الأخلاقيّة المسيحيّة، وتتطلّب تحليلًا لاهوتيّاً.
1. حول المفهوم "الكلاسيكيّ" و"الموسّع" للمباركة في المستند المذكور
السمة الأساسيّة للمباركة، بحسب المستند، هي التركيز على "تمجيد الله والفائدة الروحيّة للشعب"[3]. إنّ المفهوم "الكلاسيكيّ"[4]للبركة "يتطلّب أن يكون سلوك المبارَك متوافقاً مع إرادة الله كما تمّ التعبير عنها في تعليم الكنيسة"[5].
ومع ذلك، فإنّ النصّ الإضافيّ للمستند يهدف إلى "توسيع" و"إثراء" المفهوم الكلاسيكيّ لمعنى البركة. فلقد ارتكز هذا المفهوم الجديد على رأي البابا فرنسيس بشأن إمكانيّة توسيع "أشكال البركة التي يطلبها شخص أو أكثر والتي لا تحمل فهماً خاطئاً للزواج"[6]. وقد تمّ التعبير عن هذا الرأي في "أجوبة طرحها الكاردنالان عل بعض الأسئلة" والتي نُشرت على موقع الفاتيكان الرسميّ في العام 2023[7]. هذا، وتتضمّن الدعوة إلى "ألا نفقد الرحمة الرعويّة... وألّا نكون "قضاة ينكرون ويرفضون ويستبعدون"[8]، ممّا ما دفع مجمع العقيدة والإيمان إلى صياغة "مساهمة خاصّة وجديدة في المعنى الرعويّ للبركة يجعل توسيع وإثراء فهمها الكلاسيكيّ من وجهة نظر الليتورجيا ممكناً"[9].
إنّ "توسيع" فهم البركة يعتمد، فقط، على المواقف الأخلاقيّة المتعدّدة التي "يمكنها أن تحجب القوّة غير المشروطة لمحبّة الله التي تقوم عليها بادرة البركة"[10]. فبناءً على هذه الفكرة، يقترح مؤلّفو المستند تجنّب المواقف التي تتطلّب فيها "البركة البسيطة نفس الشروط الأخلاقيّة لتلك التي للأسرار"[11].
إنّ غياب المتطلّبات الأخلاقيّة للمبارَكين تبرّره الرغبة في عدم الطمع في محبّة الله، لأنّ محبّة الله للإنسان لا يمكن أن تكون أساساً لمباركة أزواج يتعايشون في الخطيئة. الله يحبّ الإنسان ويدعوه إلى الكمال: "فكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ" (متّى 5:48)، وإلى رفض الخطيئة التي تدمّر حياته. وبناءً عليه، يجب أن تكون رعاية الإنسان متناغمة ومتوافقة بوضوح جليّ بين حياة الخاطئ مع المحبّة التي تؤدّي إلى التوبة.
لا يوضح المستند ما يعنيه "وضع معلّق"، ولكن بما أنّ "الأزواج المثليّين" يتميّزون كفئة متمايزة، فيمكن الافتراض أنّ المعنى لـ "الوضع غير المستقرّ" هو المعاشرة التي لم تقدَّس بسرّ الزواج بين رجل وامرأة.
لا يذكر مستند «Fiducia supplicans» شيئاً عن الحاجة إلى "إجراء" المعاملات القانونيّة قبل الحصول على البركة، وبالتالي، فهذا يعني تقديم شكل معيّن من أشكال الشرعيّة غير المباشرة لما هو في جوهره غير قانونيّ. ورغم أنّ البند الوارد في المستند، والذي ينصّ على أنّه من خلال طلب مثل هذه البركة، "يزعم أنّ الشخص في المعاشرة "المعلّقة" وكأنّه "لا ينوي إضفاء الشرعيّة على معاشرته، بل يفتح حياته لله وللروح القدس، طالباً مساعدته ليعيش بشكل أفضل وبأمانة أكبر قيّم الإنجيل"[12].
ورد في المستند مفهوم الخطيئة عدّة مرّات، ولكن بصورة حصريّة وفي سياق الكلام عن محبّة الله وغفرانه وبركاته: "إنّ خطيئة العالم عظيمة ولكنّها ليست بلا حدود"[13]، " لذلك نحن نشكّل أهمّيّة عند الله أعظم من كلّ الذنوب التي قد نرتكبها[14]. "عندما يدرك الإنسان عطايا الربّ ومحبّته غير المشروطة، حتّى في حالات الخطيئة، خاصّة عندما تُسمع صلاته، فإنّ قلب المؤمن يسبّح الله ويباركه"[15]. وأيضاً: "إنّ القدّاس في الكنيسة يدعونا إلى مثل هذا الموقف من الثقة بالله حتّى في خطايانا"[16]، وحتّى لو قطعت الخطيئة علاقتنا مع الله، يمكننا، دائماً، أن نطلب المعونة من خلال مدّ اليد إليه، كما فعل بطرس أثناء العاصفة"[17].
لا يذكر المستند شيئاً عن محاربة الخطيئة، أو عن رفض أسلوب حياة الخاطئ، أو عن المساعدة الرعويّة للمؤمن في التغلّب على الخطيئة. لقد تمّ تأليف المستند بطريقة يمكن للمرء أن يستنتج منها أنّ أسلوب حياة الخاطئ لا يشكل عائقاً أمام الشركة مع الله. ويصمت المستند، تماماً، عن سرّ التوبة كمصدر ضروريّ لتلقّي النعمة الإلهيّة لكلّ من يرغب في تصحيح ما يتعارض في حياته مع إرادة الله.
يستحقّ رأي البابا فرنسيس حول الأسباب التي يقدّمها طالبو البركة، الوارد في المستند، بالحقيقة، اهتماماً خاصّاً: "يصلّي الإنسان إلى الله طالباً بركته ومعونته وثقته، متأكّدًا بأنّه يستطيع أن يساعده على العيش بشكل أفضل"[18].
فيما يتعلّق بإعطاء البركة لزوجين يعيشان معاشرة خاطئة، لا يمكننا أن نتّفق معه على تلبية طلب كلّ من يسأل البركة ويسترشد بحسب الدافع المذكور أعلاه بالتحديد. أمّا بالنسبة للأشخاص الذين يدركون الخطر الروحيّ لحالتهم، ويريدون الصلاة إلى الله طلباً للمساعدة، سيكون من الطبيعيّ والصحيح أن يطلبوا البركة والإرشاد الروحيّ، ولكن ليس كزوجين، بل بشكل إفراديّ لتشديد إرادتهما على الانفصال عن طريقة الحياة الخاطئة التي يمارسانها. وأمّا بما يتعلّق بالزوجين اللذين يطلبان البركة دون التعبير عن رغبتهما في رفض أسلوب الحياة الخاطئ، إنّما إسكاتًا لضميرهما، وحسب، فهما يرغبان في الحصول، فقط، على شرعيّة لعلاقتهما، والتي لا تتوافق، البتّة، مع معايير الحياة المسيحيّة.
2. حول بركة "الأزواج المثليّين"
يذكر مؤلّفو المستند أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تقبل الزواج باعتباره "اتّحاداً حصريّاً وثابتاً وغير قابل للانفصال بين رجل وإمرأة، ومنفتح بشكل طبيعيّ على ولادة الأطفال"[19]. يتوافق هذا المفهوم للزواج مع التعاليم الأرثوذكسيّة، المعبّر عنها، بشكل خاصّ، في بيان الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة "حول الجوانب القانونيّة للزواج الكنسيّ"، والذي جاء فيه: "لا تعترف الكنيسة، بشكل قاطع، ولن تعترف بزواج الأشخاص من نفس الجنس كزواج حقيقيّ، بغضّ النظر عن الاعتراف أو عدم الاعتراف به بموجب القانون المدنيّ، وكذلك بأشكال المعاشرة الأخرى التي لا تتوافق مع التعريف السابق للزواج باعتباره اتّحاداً بين رجل وإمرأة"[20].
ومع ذلك، إلى جانب التأكيد على التقيّد بمفهوم الزواج الذي تباركه الكنيسة كاتّحاد بين رجل وإمرأة، يعلن نصّ "Fiducia Suplicans" إمكانيّة مباركة "الأزواج المثليّين". لهذا، فإنّ القسم الكامل من المستند المخصّص لهذه البركة يتعارض، بشكل جذريّ، مع التعاليم الأخلاقيّة المسيحيّة.
في الواقع، يساوي المستند المعاشرة بين أشخاص من نفس الجنس بالمعاشرة بين الجنسين خارج الزواج الرسميّ. ومع ذلك، سُمحت المعاشرة لأشخاص من جنسين مختلفين من دون زواج في القانون الكنسيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، في حين تشكل مباركة "الأزواج من الجنس الواحد" ظاهرة جديدة.
ووفقًا للمستند، لا يحتاج الأشخاص، في مثل هذه المعاشرة، لحصولهم على البركة إلى أي تغييرات في نمط حياتهم. كما يشدّد المستند على أنّه بدون أي شروط مسبقة لكلّ، "مَن يعي نفسه معوزاً وبحاجة إلى مساعدة، ويحتاج إلى شفاء بعون وحضور الروح القدس"[21]، وهولا يطالب بشرعيّة وضعه، بل يبغي أن يتمّم كلّ ما هو صالح وحسن إنسانيّاً في حياته وعلاقاته، يمكنه أن ينال البركة المرسلة "لكي تنضج العلاقات البشريّة وتنمو في الأمانة لرسالة الإنجيل، وللتحرير من النقص والضعف، وللتعبير عن نفسه في المدى الأوسع للمحبّة الإلهيّة[22]".
إنّ تطبيق المفهوم "الموسّع" للبركة على "الأزواج المثليّين" يسبّب خلافاً أساسيّاً. فإذا كانت البركة تهدف إلى شفاء العلاقات البشريّة بحضور الروح القدس، فإنّ هذا الشفاء، في هذه الحالة، يكون في توقّف العلاقات الخاطئة. ومن أجل "النضوج والنموّ في الأمانة لرسالة الإنجيل"، يجب على مثل هذين الزوجين التخلّي عن العلاقات التي لا تتفّق مع هذه الرسالة، وإلّا لأصبحت البركة ذريعة للخطيئة. وبالتالي، يمكن تقييم منطق المستند على أنّه مخالف للتعاليم الأخلاقيّة المسيحيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الأشخاص الذين يعيشون معاشرات خاطئة يطلق عليهم المستند اسم "محرومون"[23]، وكأنّ العيب الأخلاقيّ لا يقصد اختيارهم الواعي والحرّ، أو كأنّه ينتقل من التركيز على الإدراك الواعي لاتّخاذ قرار أخلاقيّ خاطئ إلى حال وضعه ككارثة.
لا يُعرّف مستند Fiducia Suplicans "المعاشرة بين الجنس الواحد" بأنّها خطيئة. والتعريف المعاكس لهذه الحالة أشار إليه موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، التي أعطت فهماً للعلاقات المثليّة في مستندها "قواعد المفهوم الاجتماعيّ"، حيث تسمّي المثليّة الجنسيّة بوضوح "الضرّر الخاطئ للطبيعة البشريّة"، والذي يمكن أن يُغلب بالجهاد الروحيّ الذي يؤدّي إلى الشفاء والارتقاء الشخصيّ للإنسان"[24].
يعادل المستند بين مباركة "الأزواج المثليّين" ومباركة الأزواج الذين يعيشون في "وضع معلّق". في كلتي الحالتين، تخرج هذه المباركة عن إطار سرّ الزواج والخدم الليتورجيّة الكنسيّة. علاوة على ذلك، فإنّ التوصيات العمليّة الواردة في المستند لا تقلّ غموضاً عن المواقف اللّاهوتيّة التي تنطلق منها.
ووفقاً للمستند، "يمكن أن تساعد حكمة الكاهن المرسوم واهتمامه الرعويّ في تجنّب أشكال خطيرة من الإغراء أو الإحراج بين المؤمنين، الذين، رغم أنّهم يعيشون في شكل اتّحاد لا يمكن أن يقارن بسرّ الزواج، لكنّهم يرغبون في تسليم أنفسهم إلى الربّ ورحمته وطلب مساعدته وهدايّته كي يتمكّنوا من فهم أكبر لمخطّطاته في المحبّة والحقيقة"[25]. لا ينبغي أن يتساوى شكل البركة المعطاة للأشخاص الذين هم في "الأوضاع المعلّقة" أو"الأزواج من نفس الجنس" " بالمستوى الطقسيّ من قبل السلطات الكنسيّة، حتّى لا يحدث اختلاط مع البركة الممنوحة في سرّ الزواج"[26].
بمعنى آخر، يرى مؤلّفو المستند أنّ الخطر لا يكمن في "الوضع المعلّق" أو "المعاشرة بين المثليّين" في حدّ ذاته، ولكن في الإغراء أو الإحراج أو الارتباك الذي قد ينشأ بين المؤمنين نتيجةً لحقيقة أنّ البركة التي يمنحها الكاهن تشبه ظاهريّاً بركة سرّ الزواج. ولتجنّب مثل هذه العواقب، ينصّ المستند على أنّ مباركة هؤلاء الأزواج "ليست جزءًا من الطقس الليتورجيّ[27]".
يرى المؤلّفون أنّ الطريق للخروج من التناقض بين تعاليم الكنيسة حول الزواج كاتّحاد بين رجل وإمرأة، من ناحية، وإدخال الممارسة "المبتكرة" لمباركة "الأزواج المثليين" من ناحية أخرى، هو اعتبار مثل هذه البركة على أنّها بركة"عفويّة". ويفسّرون هذا بقولهم: "يجب على الكاهن المرسوم أن يطوّر الحساسيّة الرعويّة لديه من أجل منح البركة تلقائيًا التي لم ترد في" De Benedictionibus"[28].
لذلك، نلاحظ هنا تشجيعاً للكهنة بشكل مباشر على اختراع طقوس غير موجودة في الطقوس الليتورجيّة " De "Benedictionibus(حول البركة)، والتي تحتوي على منح البركة للأشخاص من مختلف الفئات والحالات الاجتماعيّة. كما نجد، أيضاً، أنّ مباركة "الأزواج المثليّين"، أو الأزواج الذين يعيشون في علاقات "معلّقة"، توضع على قدم المساواة مع مباركة الفئات الاجتماعيّة المختلفة الأخرى. ومع ذلك، فإنّ هذه الطريقة تتجاهل، مرّة أخرى، ضرورة توافق حياة المبَارَك مع إرادة الله. وبدلاً من ذلك، يتمّ تشجيع الكهنة على بركة "بطريقة عفويّة"[29] الأزواج الذين يعيشون في مساكنة تتعارض مع التعاليم الأخلاقيّة للكنيسة.
يظهر القلق مراراً وتكراراً في المستند بأشكال مختلفة حول "هذه البركات غير الطقسيّة ... من أن تصبح عملاً طقسيّاً أو شبه طقسيّ يماثل السرّ[30]". ولكن تفسير هذا الاهتمام يأتي على النحو التالي: "سيكون ذلك إفقارًا خطيراً لسيطرة الكاهن الضروريّة، لأنّه سيخضع لفئة ذات قيمة كبيرة في التقوى الشعبيّة، الأمر الذي من شأنه أن يحرم الكهنة من الحريّة والعفويّة المرافقتين لعمله الرعويّ للناس"[31].
بمعنى آخر، فإنّ الخطر، كما يتبيّن من المستند، ليس في مباركة هؤلاء الأزواج التي ستبدو وكأنّها موافقة على المعاشرة غير القانونيّة من وجهة نظر الكنيسة، ولكن بما أنّها قريبة من الطقس الليتورجيّ المقبول، فإنّها ستعطي شكلاً كنسيّاً لفعل يعتقد بأنّه "عفويّ".
ولهذا السبب، ووفقًا لمؤلّفي المستند، "لا ينبغي تشجيع أو إتمام طقوس مباركة الأزواج في وضع معلّق". لأنّ هذه البركة "لا ينبغي منحها بالتزامن مع حفل زواج مدنيّ أو فيما يتعلّق به، كما لا ينبغي استخدام اللباس أو الإشارات أو الكلمات اللّائقة بسرّ الزواج. وينطبق الشيء نفسه على الحالات التي يتمّ فيها طلب البركة من قبل الزوجين من نفس الجنس. يمكن إعطاء مثل هذه البركة، بحسب المستند، في سياق "زيارة إلى المقدّسات، أو لقاء مع كاهن، أو صلاة مشتركة أو للقيام برحلة حجّ"[32].
وهكذا نجد أنّ جميع التوصيات المذكورة أعلاه تمثّل محاولة لتجنّب الاعتراف بأنّ "المعاشرة بين الجنس الواحد" هي خطيئة، ولتجنّب الإشارة إلى ضرورة التخلّي عن نمط حياة خاطئة كهذه. وبدلاً من ذلك، فقد خلق التجنّب شعوراً بأنّ الاختيار الواعيّ لأسلوب حياة خاطئة لا يحرم الشخص من نعمة الله.
3. ردّ الفعل على المستند في العالم الكاثوليكيّ
أحدث مستند "Fiducia Suplicans" صدًى واسع النطاق في العالم الكاثوليكيّ، واستجاب له ممثّلو القسم الليبراليّ للكنيسة الكاثوليكيّة والأقليّات الجنسيّة. بينما شكّل، في الوقت نفسه، للعديد من الكاثوليك التقليديّين خيبة أمل شديدة. كما أعربت الكنائس المحلّيّة المختلفة للكنيسة الكاثوليكيّة عن عدم موافقتها عليها.
فقد جاء في بيان الأبرشيّة الكاثوليكيّة في أستانا بتاريخ التاسع عشر من كانون الأوّل لعام 2023: "إنّ مثل هذه البركة تتعارض، بشكل مباشر وخطير، مع وحي الله وتعاليم وممارسة الكنيسة الكاثوليكيّة المحدّدة منذ ألفي عام. إنّ مباركة أزواج الأوضاع المعلّقة والأزواج المثليّين هي إساءة خطيرة لاسم الله القدّوس، لأنّ هذا الزواج هو اتّحاد خاطئ رسميّ للعائش في الزنا أو في الفعل الجنسيّ المثليّ"[33].
وشدّد مؤتمر الأساقفة الكاثوليك في نيجيريا، في بيان له صادر بتاريخ العشرين من كانون الأوّل من العام 2023، على أنّ "تعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة بشأن الزواج تظلّ دون تغيّير. وبالتالي، ليس من الممكن لتعاليم الكنيسة مباركة اتّحاد المثليّين"[34].
ووفقًا لبيان مؤتمر الأساقفة الكاثوليك المجريّين في السابع والعشرين من كانون الأوّل لعام 2023، "يمكن مباركة جميع الأشخاص، بشكل فرديّ، بغضّ النظر عن هويّتهم الجنسيّة وتوجّههم الجنسيّ، ولكن يجب، دائماً، تجنّب مباركة الأزواج الذين يعيشون معاً في زواج غير كنسيّ أو زواج المثليّين"[35].
وجاء في بيان مؤتمر الأساقفة الكاثوليك في بيلاروسيا بتاريخ الأوّل من شباط لعام 2024: "لا تنوي الكنيسة الكاثوليكيّة في بيلاروسيا أن تنفّذ عمليّاً الإمكانيّة التي يقترحها المستند الصادر لمباركة الأزواج الذين يعيشون في اتّحاد غير قانونيّ والأزواج المثليّين. فيمكن إعطاء بركة خارج الليتورجيّة لكلّ من يطلبها. ومع ذلك، فمن الضروريّ، دائماً، تجنّب المباركة على وجه التحديد للأزواج الذين يعيشون في ما يسمّى "الزواج المدنيّ"، وكذلك الذين يعيشون في اتّحاد غير مشروع قانونيًا أو الأزواج من نفس الجنس. وقد ينظر المؤمنون الآخرون إلى هذه البركة على أنّها موافقة على الخطيئة"[36].
وتنصّ الرسالة الإعلاميّة حول اجتماع الجمعيّة العامّة لمؤتمر الأساقفة الكاثوليك في روسيا، المنعقد في الثامن والعشرين من شباط من العام 2024، على ما يلي: "مع الأخذ في عين الاعتبار سوء الفهم الذي نشأ حول مستند "Fiducia Suplicans"، قرّر المؤتمر أنّه من الضروريّ التأكيد على أنّ العقيدة الكاثوليكيّة بشأن الأسرة والزواج تبقى دون تغيّير... ولتجنّب الإغراء والارتباك، يلفت المؤتمر الانتباه إلى حقيقة أن البركة لأي نوع من الأزواج الذين يصرّون على علاقات معلّقة من وجهة نظر الأخلاق المسيحيّة (التعايش دون زواج، الزواج الثاني، والمثليّين) هي أمر غير مقبول"[37].
النتائج
مع أنّ مستند "Fiducia Suplicans" يعلن رسميّاً الإخلاص للمفهوم المسيحيّ لسرّ الزواج ومنح البركة، فهو يفترض في الواقع، وفي نفس الوقت، الابتعاد عن هذا الإخلاص، إذ كما يتبيّن من التحليل أعلاه، فإنّ هذا الابتعاد يعني رفض المثال الأخلاقيّ المسيحيّ الحقيقيّ.
إنّ إدخال مفهوم جديد، بالإضافة إلى المفهوم "الكلاسيكيّ" للبركة (المرتبط بتحقيق إرادة الله من قبل المباركين)، غير مدعوم من الكتاب المقدّس في نصّ المستند. لا يمكن أن يكون هناك مثل هذا التبرير، لأنّ إعطاء البركة المقدّمة، في جوهرها، تتعارض بشكل جذريّ مع التعاليم الأخلاقيّة المنصوصة في الكتاب المقدّس.
ومن وجهة نظر لاهوتيّة، فإنّ المفهوم الأحاديّ الجانب وغير المكتمل لمحبّة الله للإنسان، والذي ينعكس في هذا المستند، يبدو لنا خطيراً جدّاً، لكونه يحذف فعليّاً مفهوم الخطيئة والتوبة في علاقة الإنسان مع الله. وممّا يظهر تبنّي مثل هذا المنطق المتناقض هو عدم التجاء الأشخاص ذوو العلاقات الخاطئة إلى التوبة والعمل الروحي، بل ارتياحهم إلى هذا الشكل من أشكال البركة، على رجاء تلقّيهم "الشفاء" و"الارتفاع". ومع ذلك، لا يورد البيان حقيقة هامّة وهي أنّ الوصول الوصول إلى "الشفاء" و"الارتفاع" يجب أن تسبقهما، على الأقلّ، نيّة وقف العلاقات الخاطئة.
في سياق العمليّات التي تجري في المجتمع المسيحيّ، يمكن اعتبار هذا المستند كخطوة نحو اعتراف الكنيسة الكاثوليكيّة الكامل بـ "الاتّحادات المثليّة" باعتبارها شيء طبيعيّ، وهو ما حدث بالفعل في عدد من المجتمعات البروتستانتيّة.
يحتاج جميع المؤمنين إلى الرعايّة، بما في ذلك الذين لديهم تطلعات مثليّة. ومع ذلك، لا ينبغي أن تهدف هذه الرعاية إلى إضفاء الشرعيّة على أسلوب الحياة الخاطئة، بل السعي إلى شفاء معاناة النفس، كما هو مكتوب في "أركان المفهوم الاجتماعيّ للكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة": "التطلعات المثليّة، كما الأهواء الأخرى التي تعذب الإنسان الساقط، تُشفى بالأسرار الكنسيّة والصلاة والصوم والتوبة وقراءة الكتاب المقدّس وأعمال الآباء القديسين، وكذلك بالتواصل المسيحيّ مع المؤمنين المستعدّين لتقديم الدعم الروحيّ. تعامل الكنيسة الأشخاص ذوي الميول الجنسيّة المثليّة بمسؤوليّة رعويّة خاصّة، غير أنّها، في الوقت نفسه، تقاوم بحزم محاولات تجسيد الميل الخاطئ كأنّه شيء طبيعيّ وصالح"[38].
على الرغم من أنّ مستند "Fiducia Suplicans" هو مستند داخليّ للكنيسة الكاثوليكيّة، بيد أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة ترى أنّه من واجبها الردّ على مثل هذه الابتكارات الجذريّة التي ترفض معايير الأخلاق المسيحيّة الإلهيّة. بالمحبّة الأموميّة والتنازل إلى الإنسان، تقبل الكنيسة كلّ خاطئ يطلب بركتها، لكنّها لا يمكنها أن تبارك "الأزواج المثليّين" بأي شكل من الأشكال، لأنّ هذا يعني موافقة الكنيسة الفعليّة على اتّحاد خاطئ بطبيعته.
[1] Fiducia supplicans. 31.
[2] «Responsum» ad «dubium» de benedictione unionem personarum eiusdem sexus et Nota esplicativa: AAS 113 (2021), 431-434.
[3] Fiducia supplicans. 10.
[4] Fiducia supplicans. المقدمة
[5] Fiducia supplicans. 9.
[6] Fiducia supplicans.26.
[7] بابا روما فرنسيس. الأجوبة على Dubia التي اقترحها اثنان من الكرادلة.
[8] Fiducia supplicans. 13.
[9] Fiducia supplicans. المقدمة
[10] Fiducia supplicans. 12.
[11] Fiducia supplicans. 12.
[12] Fiducia supplicans. 40.
[13] Fiducia supplicans. 22.
[14] Fiducia supplicans. 27.
[15] Fiducia supplicans. 29.
[16] Fiducia supplicans. 34.
[17] Fiducia supplicans. 43.
[18] Fiducia supplicans. 21.
[19] Fiducia supplicans. 4.
[20] حول الجوانب القانونيّة للزواج الكنسيّ. I.
[21] Fiducia supplicans. 31.
[22] Fiducia supplicans. 31.
[23] Fiducia supplicans. 31.
[24] أساسيّات المفهوم الاجتماعيّ للكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة. القسم الثاني عشر، 9.
[25] Fiducia supplicans. 30.
[26] Fiducia supplicans. 31.
[27] Fiducia supplicans. 33.
[28] Fiducia supplicans. 35.
[29] Fiducia supplicans. 35.
[30] Fiducia supplicans. 36.
[31] Fiducia supplicans. 36.
[32] Fiducia supplicans. 40.
[33] بيان أبرشية القدّيسة مريم في استانا بشأن مستند "Fiducia supplicans " الصادر عن دائرة العقيدة والإيمان ووافق عليه البابا فرنسيس في الثامن عشر من كانون الأوّل 2023.
[34] رفض الكاثوليك النيجيريّون مباركة زواج المثليّين.
https://afrinz.ru/2023/12/nigerijskie-katoliki-otkazalis-blagoslovlyat-odnopolye-soyuzy/
[35] https://www.katolikus.hu/cikk/kozlemeny-52286114
[36] بيان صادر عن مجلس الأساقفة الكاثوليك في بيلاروسيا بشأن "Fiducia supplicans ".
[37] https://catholic-russia.ru/2024/informaczionnoe-soobshhenie-o-lix-zasedanii-plenarnogo-sobraniya-kon...
[38] أساسيات المفهوم الاجتماعي للكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة. القسم الثاني عشر، 9.