الإنقسام الحاصل في أوكرانيا وفي الجبل الأسود كأداة للجغرافيا السياسيّة
تقرير صادر عن نائب رئيس قسم العلاقات الخارجيّة الكنسيّة في بطريركيّة موسكو سيادة المطران ليونيد رئيس أساقفة فلاديكافكاز والآنيا بعد انتهاء مؤتمر الطاولة المستديرة تحت عنوان "دور المجتمع المدنيّ لضمان الاستقرار في منطقة البحر الأسود - البلقان"، والتي تمّ انعقاده بتاريخ الأوّل من أذار العام 2021.
أروم، أوّلًا، أن أشكر منظّمي الدعوة إلى مؤتمر الطاولة المستديرة وإمكانيّة المشاركة فيه. لقد شارك حشد من النوّاب والدبلوماسيّين الروس بالإضافة إلى عدد من العلماء والشخصيّات الأخرى العامّة، وذلك للتدارس في دور المجتمع المدنيّ والسياسة العامّة لروسيا ودوّل البحر الأسود والبلقان لضمان استتاب السلام والاستقرار في هذه المنطقة. وذلك لأنّ أهمّيّة هذا الموضوع ما زالت مطروحة، حتّى يومنا هذا، نظرًا إلى التقارب التاريخيّ لشعوب الاتّحاد السوفيتيّ، سابقًا، وجزيرة البلقان.
توجد أبرشيّات لسبع من الكنائس الأرثوذكسيّة المحلّيّة الشقيقة الخمسة عشر على أراضي دول البحر الأسود ومنطقة البلقان: القسطنطينيّة والروسيّة والجورجيّة والصربيّة والرومانيّة والبلغاريّة والألبانيّة. لقد تعرّفتُ، شخصيًّا، على البلقان في العام 1998، عندما كنت موظَّفًا في دائرة المجمع المقدّس للتعاون مع القوّات المسلَّحة ووكالات تطبيق القانون، وكنت في رحلة عمل داخل اللواء الجويّ المنفصل التابع لقوّات حفظ السلام الروسيّة في البوسنة والهرسك.
أتذكّر، جيدًا، كيف تعرّض السكّان الأرثوذكسيّون في المنطقة، إبّان تلك الفترة، إلى المضايقات والعنف، وكيف دُمر الكثير من الكنائس والأديرة بعد أن تجذّر الصراع العرقيّ والدينيّ، وكيف قصفت قوّات الناتو سكّان يوغوسلافيا. وفي ذلك الوقت، أي في العام 1999، أظهرت الدوّل الغربيّة استعدادها لتأسيس نظامها الخاصّ في البلقان بمساعدة القوّة العسكريّة.
لقد انقضى أكثر من عشرين عامًا على تلك الأحداث، ومع ذلك لم يحلّ السلام في هذه المنطقة. إنّ الإبادة الجماعيّة التي تعرّض لها السكّان الصربيّون في كوسوفو فور إعلان استقلال الإقليم واعتراف عدد من الدوّل الغربيّة بسيادته، لم يؤدّيا إلّا إلى تعميق الانقسام الحضاريّ، الذي ما يزال جاريًا حتّى يومنا الحاضر. لذلك، فإنّ سلطات دولة الجبل الأسود، التي تشكّلت بعد انهيار يوغوسلافيا، راحت تناهض، بشدّة، حقوق أكبر مجموعة من المؤمنين في بلدهم أي أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة الصربيّة.
وفي العام 2019، اعتمد نوّاب الجبل الأسود مشروع قانون "حرّيّة الرأي والمؤسّسات الدينيّة". وبحسب هذا القانون، سيتمّ ضمّ الأغلبيّة العظمى من الممتلكات الدينيّة التابعة للكنيسة الأرثوذكسيّة الصربيّة في الجبل الأسود إلى الدولة. إنّ الهدف الأساس لهذا القانون هو إضعاف الكنيسة الأرثوذكسيّة الصربيّة في إقليم الجبل الأسود، وذلك بدعم من المؤسّسة المنشقّة، أو "كنيسة الجبل الأسود الأرثوذكسيّة". ورغم أنّ هذه المؤسّسة قليلة العدد جدًّا، إلّا أنّها تعلن بأنّها "الكنيسة" الوحيدة لشعب الجبل الأسود.
من المهمّ القول إنّ السلطات الحاليّة في الجبل الأسود لا تخفي مناصرتها للإدماج الأوروبيّ والانفصال عن صربيا، ولذلك تسعى إلى تشويه سمعة التراث التاريخيّ والروحيّ والثقافيّ المشترك بين شعبي صربيا والجبل الأسود. كما من الواجب الإيضاح أنّ أساس هذا التراث هو التزام أغلبيّة المؤمنين في البلدين بالكنيسة الصربيّة الموحَّدة.
وهذا ما شجّع السياسيّين على تحقيق هدف إضعاف تأثير الكنيسة الصربيّة على أراضي الجبل الأسود، بقدر المتاح لهم، للحصول على اعتراف بطريركيّة القسطنطينيّة بمؤسّستهم الكنسيّة الخاصّة بهم، والذي قد يتجسّد في المستقبل. لذلك، قامت السلطات بمضايقات إعلاميّة على مطرانيّة الجبل الأسود التابعة للكنيسة الأرثوذكسيّة الصربيّة، والتي اتُّهم مؤمنوها بـ "الشوفينيّة الصربيّة" ومعارضة استقلال دولة الجبل الأسود.
والأمر المهمّ اللّافت أنّ المؤمنين الأرثوذكسيّين في الجبل الأسود لم يقفوا مكتوفي الأيدي يتفرّجون بصمت على الانقسام الكنسيّ الذي فرضته سلطات الدولة، إنّما نظّموا المظاهرات في جميع أنحاء البلد. ورغم الحظر المفروض بسبب الوباء المستجدّ، فقد خرج إلى الشوارع آلاف المؤمنين، لكي يعلنوا عدم تخلّيهم عن مقدّاستهم.
فإنّ رؤساء الكنيسة الأرثوذكسيّة الصربيّة في الجبل الأسود، بمن فيهم المثلَّث الرحمات المطران أمفلوخيوس متروبوليت الجبل الأسود، ناضلوا من أجل إلغاء هذا القانون التمييزيّ. كما دعا قداسة البطريرك كيريل بطريرك موسكو وسائر روسيا مع المجمع المقدّس للكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة يسانده كلّ من رؤساء كنائس القدس ورومانيا وبولونيا والأراضي التشيكيّة وسلوفاكيا مع أساقفتهم، مرارًا وتكرارًا، إلى الوحدة القانونيّة للكنيسة الصربيّة.
في نهاية المطاف، وفي كانون الثاني لعام 2021، أُجبر رئيس الجبل الأسود، ميلو دجوكانوفيتش، على توقيع تعديلات برلمانيّة لقانون الحرّيّة الدينيّة، وإلغاء أحكام القانون التشريعيّ ضد الكنيسة الأرثوذكسيّة الصربيّة.
وقد صوّت البرلمان الجديد مرّتين على التعديلات الحاصلة في هذا القانون المغرض، حيث كان الحزب الموالي للرئاسة، لأوّل مرّة، منذ ثلاثين عامًا في المعارضة. فإنّ الموقف المتعنّت والعديم الحكمة لرئيس الجبل الأسود، الذي أصر على وجوب إدخال هذا القانون، أدى به وبحزبه إلى الخسارة.
من الواضح أنّ الشعب لا يغفر التعديات على مقدّساته. وللأسف الشديد، فإنّ السيّد دجوكانوفيتش لم يذعن لتحذير رئيس الكنيسة الأرثوذكسيّة الصربيّة وأساقفتها، من مغبّة ما قد يحدث في المستقبل، فعُرف حزبه بالمعارضة، في حين فاز في الانتخابات الحزب السياسيّ الذي دعا، منذ البداية، إلى إلغاء البنود التمييزيّة في هذا القانون، وهذا ما حصل فعلًا.
لا شكّ في أنّ هذه الأحداث هي انتصار كبير لكلّ من الكنيسة الأرثوذكسيّة الصربيّة بخاصّة وقانونيّة الأرثوذكسيّة بعامّة. كلّنا يعلم أنّ السيد ميلو دجوكانوفيتش أراد أن يكرّر في الجبل الأسود الأحداث التي جرت في أوكرانيا خلال عهد الرئيس بيتر بوروشينكو. لقد نجح عمله السياسيّ، أي إنّه انتهى بالطريقة عينها التي انتهت بها مسيرة السيّد بوروشنكو. ولكن، وفي كلّ الأحوال، فإنّ الكنيسة القانونيّة ما زالت ثابتةً.
إذا تحدّثنا عن الاستقلال الذاتيّ "للكنيسة الأرثوذكسيّة في أوكرانيا" المُعلن في العام 2018 بانتهاك صارخ لقوانين الكنيسة المقدسّة، فإنّنا نرمي إلى القول بأنّ هذا المشروع السياسيّ يهدف، في الأساس، إلى إضعاف الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، بخاصّة، وإلى انقسام الأرثوذكسيّة، بعامّة، بالإضافة إلى توسيع شرخ الانقسام بين الشعوب الشقيقة في روسيا وأوكرانيا.
ولقد قام برثلماوس بطريرك القسطنطينيّة بدور مباشر وقياديّ في هذا المشروع، الذي اعتمد، ولا يزال، على المنظمّات الأمريكيّة. فإنّ سفراء الولايات المتّحدة الأمريكيّة في كلّ من اليونان وأوكرانيا أقرّوا بذلك علانيّة، وكذلك الممثّل الأمريكيّ المناصر للحرّيّة الدينيّة سام براونباك.
كما صرّح بذلك، أيضًا، وزير الخارجيّة الأمريكيّ مايك بومبيو في بياناته الرسميّة. لذلك، فإنّ اعتبار هذه المسألة ضمن الإطار الكنسيّ، فقط، يعني أنّنا نغضّ الطرف عن حقيقة واضحة تمامًا.
قد يحقّق هذا المشروع، على المدى القصير، بعض النتائج التكتيكيّة، كاعتراف الكنائس الأرثوذكسيّة المحليّة كافّة، أو رئيسها على الأقلّ، بالمنشقّين الأوكرانيّين. وأمّا الهدف الرئيس لهذا المشروع، فهو تدمير الأرثوذكسيّة بأكملها على المدى الطويل. فإنّ الانتصارات، التي يمكن تصورها في هذا المضمار، سوف تتحقّق ولكن بثمن باهظ، وسوف تؤثر هذه النتائج المريرة للانقسام الحاصل، اليوم، على حياة الكنيسة الأرثوذكسيّة، ككلّ، لسنوات عديدة قادمة، وربّما لعقود أيضًا.
وفي الواقع، بدأت البطريركيّة القسطنطينيّة تجني، حاليًّا، ثمار سياستها القصيرة النظر. ففي تمّوز من العام 2020، قرّرت السلطات التركيّة، رغم عدم موافقة المجتمع الدوليّ، تغيير وضع متحف "آيا صوفيا" في القسطنطينيّة وتحويله إلى مسجد. وأعرب المجمع المقدّس للكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة عن أسفه العميق لهذا القرار.
وخاصّة في البيان الذي أصدره المجمع الروسيّ، حيث ورد فيه: "يتوجّه المجمع الروسيّ إلى الكنائس الارثوذكسيّة المحلّيّة الشقيقة معربًا عن أسفه الشديد لما يشهده العالم الأرثوذكسيّ اليوم من واقع محزن بسبب التصديق على الانشقاق في أوكرانيا، و"الامر الذي أضعف قدرتنا على مواجهة التحدّيات الروحيّة والحضاريّة المعاصرة... والآن، في عصر الكراهية للمسيحيّة وضغط المجتمع العلمانيّ المتصاعد على الكنيسة، أمست الحاجة إلى الوحدة ضروريّة أكثر من أي وقت مضى. لهذا، ندعو الكنائس المحلّيّة الشقيقة إلى إيجاد حلّ يخرجنا من هذه الأزمة طبقًا لروح السلام والمحبّة للمسيح".
وفي الختام، أودّ أن أعبر عن أملي الشديد بألّا يستمرّ، طويلًا، هذا الانقسام في العالم الأرثوذكسيّ، الذي بدأته قوّات سياسيّة خارجيّة معاديّة لكنيسة المسيح. نحن في أمسّ الحاجة، اليوم، إلى التأمّل مليًّا وبجدية فيما يحدث، والتصرّف ليس بحسب متطلّبات المسؤولين العلمانيّين في الخارج، بل كما يوحي لنا الروح القدس وضميرنا المسيحيّ ووفق قوانين الكنيسة الجامعة المقدّسة.
وأشكر لكم اهتمامكم.