وفد رهبانيّ من الكنيسة الروسيّة يزور أديرة الصحراء الشرقيّة
دائرة الاتّصالات في قسم العلاقات الخارجيّة الكنسيّة في بطريركيّة موسكو، 03/05/23
في الفترة الممتدّة ما بين الثلاثين من نيسان والأوّل من أيّار، قام وفد رهبانيّ من الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة برئاسة المتروبوليت ديونيسيوس مطران فوسكريسينسك مسؤول الشؤون الإداريّة في بطريركيّة موسكو بزيارة أماكن مسيحيّة في مصر، وبخاصّة لافرا القدّيسين أنطونيوس الكبير وبولس الثيبيّ في الصحراء الشرقيّة الواقعة بين وادي النيل والبحر الأحمر.
رافق الوفد ممثّل الكنيسة القبطيّة في روسيا الأب داود الأنطوني، ومستشار قداسة البطريرك تواضروس الثاني الدكتور أنطون ميلاد، ورهبان من الأديرة المصريّة بالإضافة إلى مسؤول عن رعايا الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة في مصر الأب أليكسي ماشكوف.
وكان المكان الأوّل الذي زاره الوفد في الصحراء الشرقيّة في الثلاثين من أيّار (أحد حاملات الطيب)، لافرا القدّيس أنطونيوس الكبير مؤسّس الرهبنة في مطلع القرن الرابع، الذي تمّ بناءه في مكان جهاد القدّيس الروحيّ في قلاية كهفيّة بالقرب من الجبل، والذي يعتبر أحد أهمّ أماكن الحجّ المسيحيّ منذ فترة طويلة.
تسلق أعضاء الوفد الجبل، حيث استقبلهم رئيس الدير المطران يوست، وتبرّكوا من قلّاية القدّيس أنطونيوس، التي عاش فيها قرابة السبعين عامًا، ورتّلوا طروباريّته.
ثمّ، احتفل المتروبوليت ديونيسيوس بمشاركة بعض أعضاء الوفد ممّن لهم الرتبة الكهنوتيّة بالقدّاس الإلهيّ في إحدى الكنائس القديمة في الدير. وحضر الصلاة أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة الساكنين في الغردقة.
في نهاية القدّاس، توجّه المطران ديونيسيوس إلى الحاضرين بكلمة روحيّة، قال فيها:
أيّها الآباء الأجلّاء والأمهات والإخوة والأخوات الأعزّاء، المسيح قام...
في هذا الأحد المبهج، أنقل إليكم جميعًا تحيّات قداسة البطريرك كيريل بطريرك موسكو وسائر روسيا، الذي بارك هذا حجّنا إلى هنا. ومن كلّ قلبي أهنّئ جميع الحاضرين، وبخاصّة الأخوات الحاضرات بيننا اليوم، بمناسبة الأحد الثالث بعد الفصح، المخصَّص لذكرى النساء القدّيسات حاملات الطيب الخادمات الربّ اللواتي أصبحن أوّل شهود لقيامته المجيدة من بين الأموات. يحمل كلّ واحد منكم جزءًا من خدمة هؤلاء النساء القدّيسات في أعيننا وفي أعين الكنيسة المقدّسة أيضًا. كلّ واحدة منكنّ هي أيضًا حاملة الطيب بحياتها الصالحة.
احتفلنا، اليوم، في هذا الدير القديم المقدّس بالقدّاس الإلهيّ. بالنسبة لنا هذا بركة كبيرة من الله، لأنّ المكان الذي نحن فيه مقدّس حقًا، مليء بالذكريات المقدّسة. تعود الكنيسة التي جمعتنا تحت أقبيتها إلى القرن السادس وتقع في برج الدير. في العصور القديمة، أثناء غارات البدو الرحَّل، اجتمع الرهبان الذين عاشوا هنا في هذا البرج للصلاة، طالبين من الله أن يحفظ ديرهم، إذا كانت هذه إرادته المقدّسة. وقبل ذلك، هنا، فوق هذا الدير، في أعالي الجبل، ترهّبن القدّيس أنطونيوس الكبير.
اليوم، أتاحت لنا نعمة الله فرصة سعيدة بتسلق هذا الجبل والصلاة فيه. مرّت قرون عديدة منذ أن تعرّض الدير لهجوم البدو الرحَّل، بل، وفي أوقات لاحقة، لاح في الأفق، وأكثر من مرّة، خطر الإلغاء والدمار. لقد جرى هذا في الماضي، بيد أنّ الزمن قد تغيّر، وكذلك نحن، إذ لم نعد نفس المسيحيّين الذين جاهدوا محبّة بالربّ في عصر حياة القدّيس أنطونيوس على الأرض، ولا حتّى أولئك الذين عاشوا قبل أجيال قليلة فقط. ولكن ما جدير ذكره هو أنّ أهمّ الأمور لم تتغير. فأوّلاً، المسيح نفسه لم يتغيّر؛ وثانيًا، الحكمة الرهبانيّة القديمة لم تتبدّل، ولكن إذا ما حدث أمر رهيب يهدّد كلًّا من الجسد والروح، يجب، عندئذ، الحفاظ على البرج، الذي هو كنيسة المسيح.
بالحقيقة، ليس من المستغرب أن تشيَّد هنا، في هذا البرج، كنيسة، فوجود الإخوة هنا ليس من أجل إنقاذ حياتهم، وحسب، إذ ما قيمة الحياة البشريّة القصيرة مقارنة بالروح الخالدة التي منحها الله؟ ولكن من أجل الخلاص وميراث الحياة الأبديّة، بعد تركنا هذه الحياة الأرضيّة المؤقَّتة، عبر الصلاة والشركة في أسرار المسيح المقدّسة.
وكذلك، يا أحبّائي، نحن مدعوون للقيام بالشيء نفسه اليوم، ليس فقط أثناء الأوقات العصيبة، ولكن، أيضًا، في كلّ يوم من أيّام حياتنا؛ أي الجهاد في الصلاة في الكنيسة، والمشاركة في الأسرار الإلهيّة جسد والدم الحقيقيّين الطاهرين لربّنا يسوع المسيح، راجين أن يسمعنا هو، الصالح والمحبّ البشر، ويرحمنا ويخلّصنا. وهكذا، إذا أُمرنا، في لحظة رهيبة، أن نترك هذه الحياة الأرضيّة بما فيها من اهتمامات دنيويّة، نقف أمام الله متصالحين مع الكنيسة ومطهَّرين من فساد الخطية.
نحن، كمسيحيّين، نعرف هذه الحقيقة حقّ المعرفة، ولكن تقع علينا أيضًا مسؤوليّة نقلها إلى الذين لم تصلهم بعد، لنكون قادرين على اصطحابهم معنا إلى برج الإنقاذ هذا إذا رغبوا في ذلك. وليسمح الربّ لنا، كما سمح، مرّة وفي الوقت المناسب، للنسوة الحاملات الطيب، لنر القائم من بين الأموات في مجده، آمين. المسيح قام...حقًّا قام!"
وبعد القدّاس الإلهيّ، قام المطران ديونيسيوس والوفد المرافق له بجولة في منطقة اللافرا، للتعرّف على أنشطتها الاقتصاديّة المختلفة وزيارة كنائس الدير مع مقدّساته. وزار الوفد ينبوع القدّيس أنطونيوس الذي ينبع من ارتفاع يزيد عن أربع مئة متر، مؤمّنًا للدير، يوميًّا من ثمانين الى مئة متر مكعب من المياه.
وفي نهاية زيارتهم إلى دير القدّيس أنطونيوس، أقيمت مائدة طعام مشتركة جرت خلالها محادثة أخويّة مع رئيس الدير ورهبانه البالغ عددهم حوالي ثلاثمائة راهب. أخبر المطران يوست أعضاء الوفد، بالتفصيل، عن التاريخ والحياة المعاصرة للافرا، بالإضافة إلى خصوصيات ميثاقها.
وفي الأوّل من أيّار، زار الحجّاج الروس ديرًا قديمًا آخر يقع في الصحراء الشرقيّة، والذي تمّ تأسيسه بعد وقت قصير من تأسيس دير القدّيس أنطونيوس، وهو دير القدّيس بولس الثيبيّ. عند البوّابة الرئيسيّة للدير، استقبل الوفد استقبالًا حارًّا رئيسه المطران دانيال أسقف المعادي والبساتين ودار السلام وتوابعها، وأمين عام المجمع المقدّس ورئيس اللجنة البطريركيّة للأديرة والرهبنة في الكنيسة القبطيّة، الذي قام بزيارة روسيا مرارًا وتكرارًا على رأس الوفود الرهبانيّة القبطيّة.
بمرافقة المطران دانيال، زار المطران ديونيسيوس وأعضاء الوفد كنيسة القدّيس بولس وتبرّكوا من قبره حيث ظهرت فيه الأسود بأعجوبة من الصحراء، وحفروا له قبرًا في قلاية الكهف حيث جاهد. أخبر رئيس الدير الحجّاج الروس عن تاريخه، وعرض مقدّسات اللافرا، والطاحونة القديمة، وقاعة الطعام القديمة ومتحف الدير، وكذلك ينبوع القدّيس بولس الذي يتدفّق من ارتفاع حوالي ثلاثمئة متر، ويعطي الاخوة كلّ يوم نحو أربعة أمتار مكعبة من الماء.
في نفس اليوم، احتفل أعضاء الوفد بالقدّاس الإلهيّ في كنيسة الدير المكرّسة على اسم القديس مرقس الناسك، والتي بنيت في الكهف، في مكان قلّايته في القرن الثالث عشر.
وفي نهاية القداس، حضر وفد بطريركيّة موسكو حفل استقبال، أقامه رئيس دير القدّيس بولس الثيبيّ على شرفهم.
توجّه المطران دانيال بكلمة إلى الضيوف وقال: "نرحّب بكم بكلّ سرور في ديرنا القديم، الذي يحمل اسم القدّيس بولس الثيبيّ المتقدّس بأعماله العظيمة لمجد الله! نستقبلكم هنا ليس بصفتكم ضيوفًا أعزاء مكرَّمين، إنّما نرى فيكم إخوة لنا حقيقيّين في الربّ يسوع المسيح، ونلحظ في وجوهكم انعكاسات وجهه الطاهر. أصحاب السيادة المحترمون، والآباء والإخوة والأخوات، تذكّروا، دئامًا، أنّ بيتنا هو بيتكم".
ردّاً على ذلك، أعرب المطران ديونيسيوس عن شكره العميق للأسقف دانيال والإخوة على الترحيب الحارّ لممثّلي الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، وعلى إتاحة الفرصة للتبرّك من أعظم المقدّسات المرتبطة بعصر ولادة الرهبنة المسيحيّة. وأشار رئيس الوفد، بشكل خاصّ، إلى قيمة الخبرة الرهبانيّة المصريّة والقوّة الروحيّة الجهاديّة لتقليد لم ينقطع اللتين تشكّلان أعهّيّة مميّزة لنا نحن الروس..
وقال المطران ديونيسيوس بشكل خاصّ: "قبل أن تبدأ وفود الحجّاج الروس في زيارة الكنيسة القبطيّة والمقدّسات المسيحيةّ العظيمة التي تحرسها، وقبل أن يبدأ إخواننا الأقباط في الوصول إلى روسيا بزيارات متعدّدة، يمكن القول إننا لم نكن نعرف الكنيسة القبطيّة، ولا التقليد المسيحيّ المصريّ بشكل عام. بالطبع، قرأنا جميعًا وسمعنا عن حياة القدّيس أنطونيوس الكبير وبولس الثيبيّ، وعن قدّيسين مصريين بارزين عاشوا في القرون الأولى من العصر المسيحيّ. ولكن بدت لنا هذه الأسماء المقّدسة القريبة والعزيزة على نفس كلّ مسيحيّ مجرد صدًى لماض بعيد جدًّا، ماضٍ مغطّى برمال الصحراء يعيش، فقط، في ذاكرتنا المصلّية. وما أدهشنا، فعلًا، وجود هنا، في قلب الأرض المصريّة، واحات رائعة من الحياة الرهبانيّة، حيث ترتفع الأديرة التي أسّسها هؤلاء القدّيسون بشكل رائع مخلّفين فيها آثارهم الصادقة، وحيث يعيش العديد من الرهبان وفقًا للقواعد التي ورثوها عن شيوخ العصور القديمة، مقلّدين حياتهم الملائكيّة. عند رؤية كلّ هذا، لم نشعر بالدهشة، فحسب، بل حتّى بالفرح الطفوليّ في بعض اللحظات".
نعلم أنّ عدوّ الجنس البشريّ بذل جهودًا كبيرة لتدمير كنيسة الله والأديرة والكنائس. يتذكّر الكثير منا، نحن الرهبان الروس، خراب السلطة الإلحاديّة التي استمرّت لفترة طويلة في بلدنا. قبل ثلاثة عقود، كان للكثير منّا دور شخصيّ في إعادة بناء مقدّساتنا وإحياء الحياة الرهبانيّة فيها. لذلك، بالنظر إلى أديرتكم، نشهد عزاءًا حقيقيًّا، إذ يمكننا تعلّم الكثير من خبراتكم القيّمة، التي تراكمت لدى أجيال عديدة من الشعب القبطيّ على مدى أكثر من ألف سنة ونصف. برحمة الله وقدرته القوية، فشل شرّ الشيطان في سحق كنيسة المسيح، لا في روسيا ولا هنا على أرض مصر، ويتّضح هذا من خلال إقامتنا الحاليّة في ديركم المقدّس، ومن السعادة التي نشعر بها أثناء وجودنا هنا، وكأنّنا في يوم حارّ نختبئ تحت فيء شجرة منعشة مثمرة".
ثمّ جرت محادثة مطوّلة مع رئيس وإخوة دير القدّيس بولس، حيث ناقشوا خلالها، من بين أمور أخرى، سمات الحياة الرهبانيّة الليتورجيّة والقانونيّة المتأصّلة في تقاليد الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة والكنيسة القبطيّة.
في الثاني من أيّار، غادر الوفد متوجّهًا إلى وادي النطرون، حيث سيواصل الحجّ إلى أماكن مقدّسة أخرى في الأرض المصريّة.