المتروبوليت هيلاريون: السيّدة العذراء تحمي بمحبّتها العالم بأسره وكلّ البشريّة
في الحادي والعشرين من أيلول للعام 2021 احتفل سيادة المتروبوليت هيلاريون متروبوليت فولوكولامسك ورئيس قسم العلاقات الخارجيّة الكنسيّة في بطريركيّة موسكو بالقدّاس الإلهيّ بمناسبة عيد ميلاد السيّدة العذراء مريم في كنيستها بمنطقة بولشايا أورضينكا (موسكو). شارك في الذبيحة الإلهيّة كهنة الرعيّة والمؤمنين، ورُفعت الطلبات على نيّة وقف انتشار وباء الكورونا.
ألقى سيادته العظة الروحيّة التالية:
"باسم الآب والابن والروح القدس، آمين.
لا تمدّنا الأناجيل المقدّسة بأيّة تفاصيل عن حياة السيّدة العذراء أين وُلدت، مثلاً، ومن كان والداها، وكيف عاشت طفولتها. بيد أنّنا نقرأ في إنجيل القدّيس لوقا كيف أُرسل رئيس الملائكة جبرائيل إلى الناصرة إلى عذراء اسمها مريم، ليعلن لها البشارة بولادة المسيح المخلّص منها. ويطلعنا الإنجيليّ متّى على كيفيّة ولادة الربّ يسوع المسيح من العذراء مريم بحلول الروح القدس فيها. ولكن من هي مريم العذراء أو من هما والداها، وماذا سبق مجيء الملاك إليها من حوادث، فالإنجيل المقدّس يسدل الستار عن ذلك.
غير أنّ التقليد الكنسيّ يفيدنا بأنّ يواكيم وحنّة هما والدا السيّدة العذراء مريم، وأنّ يواكيم كان كاهناً في هيكل أورشليم ولم يكن له أطفال (وهذا الأمر كان يُعتبَر في العهد القديم عقوبة شديدة من الله على بعض الخطايا، فالكلّ كان ينتظر أن يأتي من نسلهم المسيح ماسيّا)، لذا لم يكن يفتر عن الصلاة وزوجته حنّة لسنوات عديدة كي يمنحهما الربّ طفلاً.
عندما وصل هذان الزوجان التقيّان إلى شيخوخة متناهية، سمع الربّ صلاتهما، فجاءت منهما الطفلة مريم المزمعة أن تصبح والدة الإله المتجسّد، خزانة غير المتغيّر وأداة خلاصنا.
قضت السيّدة العذراء مريم والدة الإله الفائقة القداسة، كما يشهد بذلك تقليد الكنيسة، طفولتها في كنيسة القدس. وأمضت كلّ وقتها في الصلاة وقراءة الكتاب المقدّس والتطريز وإعداد نفسها لتصبح والدة الربّ. ولكن، بالطبع، عندما ظهر لها الملاك وأعلمها بذلك، شعرت بالحرج وقالت له كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً (لو 1.34). فأجاب الملاك وقال لها: "الروح القدس يحلّ عليك وقوّة العليّ تظلّلك فلذلك أيضاً القدّوس المولود منك يدعى ابن الله (لو 1:35).
لماذا اختار الربّ هذه الفتاة اليهوديّة النقيّة لتصبح أُمّه لا شخصاً آخر؟ ولماذا آثر أن يولد من عذراء؟ ألم يكن من الممكن أن ينزل من السماء بنفس الطريقة التي صعد بها إليها بعد أن مات على الصليب وقام من بين الأموات؟
لا يعطينا الكتاب المقدّس ولا التقليد الكنسيّ إجابة على هذه الأسئلة. جاء الربّ إلى هذا العالم من خلال ولادة بشريّة عاديّة كولادة الأطفال الآخرين. ولكن، في الوقت نفسه، لا يمكن وصف ولادة يسوع المسيح بأنّها عاديّة، لأنّ المسيح لم يولد نتيجة زواج بشريّ، بل من مريم العذراء والروح القدس. ظلّت بتوليّة مريم محفوظة ولم تفقدها بولادتها الربّ المخلّص. لهذا، فعندما نفكّر بكلّ هذا، فإنّ أذهاننا وقلوبنا تتلامس مع السرّ العظيم الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات بشريّة.
لا يمكننا الإجابة على السؤال عن سبب ظهور الربّ إلى العالم بهذه الطريقة وليس بغيرها، أو لماذا اختار طريقة الولادة هذه وليس طريقة أخرى. نحن نعلم، فقط، أنّ الله أراد أن يكون قريباً منّا. أراد أن يتنازل من علوّه السماويّ ليشاركنا حياتنا البشريّة بكلّ أحزانها ومشاكلها وما لا يرضينا، بل ما يؤلم قلوبنا وأرواحنا ويعذّبها.
أصبح الربّ واحدًا منّا ليخلّصنا، فإنّه كما نزل من السماء إلى الأرض، يمكننا نحن بنعمته أن نصعد من الأرض إلى السماء. ولكنّ هذا الصعود لا يتمّ خلال لحظة واحدة أو مرّة واحدة، وليس بعد موتنا وإنّما يحدث بالفعل هنا والآن، وأقصد عندما نأتي إلى الكنيسة لنصلّي إلى الربّ وأمّه الطاهرة والملائكة والقدّيسين، وللمشاركة في القدّاس الإلهيّ والمساهمة في القرابين الإلهيّة أي جسده ودمه الأقدسين،. فمن هنا يبدأ صعودنا من الأرض إلى السماء، وأمّا نصيرتنا في هذا الصعود، فهي شفيعتنا والدة الإله العذراء مريم.
غمرت والدة الإله الفائقة القداسة كنيستنا برحمة خاصّة، فهي حاضرة معنا عبر أيقونتها العجائبيّة "فرح كلّ المحزونين". فمتى ما أصابنا حزن، يمكننا أن نأتي إلى هذه الأيقونة لنتبارك منها ونصلّي أمامها، وسننعم، دائمًا، بالراحة ونحصل على المساعدة ولو لم تأتِ فوريّاً، ولكنّها ستشملنا بالتأكيد لاحقاً، لأنّ والدة الإله سريعة الاستجابة، تسمع صلواتنا وتبادر إلى معاضدتنا وتتوسّل من أجلنا أمام عرش الله الضابط الكلّ.
يعتقد البعض أنّه لا يمكن الركون إلى التقليد بما يختصّ بولادة العذراء مريم من يواكيم وحنة وترعرها في كنيسة القدس بما أنّ الكتاب المقدّس يسكت عن ذكر هذا. فيدّعي كلّ من البروتستانت والكارزين المعمدانيّين والخمسينيّين أنّه يستحيل على الطفلة الصغيرة أن تكون قد أمضت طفولتها في الهيكل، فهم يعترفون بالمسيح كإله ومخلّص، ولكنّهم يرفضون، في نفس الوقت، تقليد الكنيسة ولا يصلّون إلى والدة الإله الكلّيّة القداسة ولا يكرّمونها.
نجيب، بكلّ تواضع، على اعتقاد هذه الشيع: إنّ سرّ والدة الإله قد انكشف للكنيسة وعليها أيضاً بوضوح تامّ، كما كُشف، عبر القرون المتتالية، للمؤمنين كافّة. فنحن لا يمكننا تكريم يسوع المسيح كإله ومخلّص بدون التكريم المتزامن للسيّدة العذراء مريم بصفتها أمّه الطاهرة.
ويذكر لنا التاريخ أنّه القرن الخامس قرّر أحد اللاهوتيّين المتحمّسين المنحرفين عن العقيدة الصحيحة تغيير اسم والدة الإله، مدّعياً أنّها لم تلد الإله المتجسّد الأزليّ - الأبدي، إنّما رجلاً عاديّاً هو يسوع المسيح، لذلك توجّبت تسميتها بوالدة المسيح وليس والدة الإله. رفضت الكنيسة أساقفةً ولاهوتيّين ومؤمنين رفضاً قاطعًا هذه الهرطقة، وأقرّت، عبر مجمع عُقد لهذه الغاية، بأنّ العذراء الفائقة القداسة هي حقًا والدة الإله، وقد ولدت يسوع المسيح الإنسان التامّ والإله التامّ، ولذلك دُعيت والدة الإله بحقّ. نصلّي إلى شفيعتنا المقتدرة لتشفع بنا أمام عرش الربّ. نعترف من أعماق القلب بوجودها في حياتنا، ولكنّ الأهمّ أنّها تسمعنا وتستجيب لصلواتنا، وبمحبّتها الأموميّة تحمي العالم كلّه، بشكل عامّ، وكلّ شخص فيه بشكل خاصّ.
دعونا نضرع، في هذا العيد البهج، إلى سيّدتنا الطاهرة والدة الإله الفائقة القداسة لكي تنقذنا من كلّ شرّ، وتحفظ وطننا سالماً، وتحمي جميع شعوب الأرض، وليتوقّف انتشار هذا الوباء الخطير في أسرع وقت ممكن، والذي سمح الربّ به كتجربة لإيماننا. نمجّد في صمت قلوبنا ربّنا يسوع المسيح وأمّه السيّدة العذراء. آمين.
كلّ عام وأنتم بخير. ألا قوّاكم الله وكلّلكم بالعافية".