سيادة المطران هيلاريون: أعمال الآباء القدّيسين هي المصدر الأساس للحياة الروحيّة والخلاص









أقام سيادة المطران هيلاريون متروبوليت فولوكولامسك ورئيس قسم العلاقات الخارجيّة الكنسيّة في بطريركيّة موسكو يوم الخميس من الأسبوع الأوّل من الصوم الكبير - بمشاركة كهنة الرعيّة - صلاة النوم الكبرى مع قراءة القانون الكبير للقدّيس أندراوس الكريتيّ في كنيسة السيّدة العذراء مريم في رعيّة (بولشايا أورضينكا -موسكو).
وتوجّه سيادته للمؤمنين بالكلمة الروحيّة التالية:
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين.
تُدخلنا الكنيسة، في أيّام الصوم الكبير، إلى أعماق الروحانيّة الرهبانيّة. فخلال الخدم الطقسيّة نسمع قراءات من العهد القديم ومن مزامير النبيّ داود الروحيّة، كما نسمع، أيضًا، العديد من التراتيل التي دوّنها الرهبان. تطلعنا الكنيسة على أخبار الآباء القدّيسين وعن جهادهم الحسن، وكيف نسكوا في الصحاري والجبال، تاركين هذا العالم وكلّ ما فيه ليعيشوا مع الله بالتوبة.
وأمّا الأسئلة التي تطرح نفسها في هذه الأيّام المباركة، فهي: ما أهمّيّة أن يتنسّك الانسان في الصحاري؟ وما أهمّيّة حرمان الإنسان نفسه من الخيرات الأرضيّة؟ وهل مطلوب أن يحزن المؤمن على خطاياه وخطايا العالم كلّه؟ وهل يدعو الله الجميع إلى هذا الجهاد الروحيّ أم الرهبان فقط، وكأنّ قلّة قليلة، فقط، تسعى لترضي الله وتكون عبرة ونورًا لغيرها ليسلكوا طريق الحقّ؟ سيظهر في الكنيسة في أوقاتٍ مختلفة أناسٌ يريدون الإقتداء بالمسيح للوصول إلى الخلاص.
نرى، اليوم، العديد من المؤمنين يتساءلون هل يكفي الذهاب إلى الكنيسة مرّة في الشهر لكي نرث الخلاص؟ وهل تكفي المناولة مرّة في الشهر، أو ربّما مرّة واحدة في السنة؟ يحاول الكثيرون وضع حدود معيّنة لعلاقتهم بالله، وبكلام آخر يحاولون العيش نظير أيّ إنسان عاديّ لا يريد أن يحرم نفسه شيئًا ومع ذلك يودّ أن يرث ملكوت الله. ولكنّي أقول لكم إنّ من أراد أن يرث ملكوت السماوات يحتاج إلى اقتناء العديد من الفضائل والخبرات الروحيّة.
لقد هرب آباؤنا الأبرار، على مدى قرون طويلة، من العالم إلى الصحراء لكي يرفعوا الصلوات إلى الربّ من أجل العالم كلّه، ويقدّموا له ثمار التوبة على خطاياهم وخطايا الآخرين، مسخّرين كلّ قواهم البشريّة لتحقيق مشيئة الله، مقتدين بالمسيح لتأتي حياتهم طبق حياته.
حفظ لنا، هؤلاء الآباء الأبرار، التراث الروحيّ الغنيّ، الذي نلمسه في الليتورجيا والكتب الروحيّة. وإذا عدنا إلى سيرة ناظمي التسابيح الليتورجيّة، وبخاصّة الذين نسمع أقوالهم في الصلاة أثناء فترة الصوم الكبير، نجد أنّهم جميعًا كانوا رهبانًا. ومنهم القدّيس البارّ أندراوس الكريتيّ، الذي قرأنا قانونه الكبير في الأيّام الأربعة الأولى من الصوم الأربعينيّ، وأيضًا القدّيس البارّ يوحنّا الدمشقيّ والقدّيس قوزما المرنّم والعديد من الآباء الأبرار الذين تركوا لنا التسابيح التي نستخدمها حتّى يومنا هذا في الخدم الإلهيّة الكنسيّة.
لدينا إرث كبير وغنيّ من آباء القرن الرابع كالقدّيسين الأبرار أنطونيوس الكبير مكاريوس الكبير وأفرام السوريّ الذين كانوا نسّاكًا بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى. وجاءت، من بعدهم، أعمال الآباء اللّاحقين الذين أغنوا التراث الروحيّ بكتاباتهم مثل القدّيس البارّ يوحنّا السلّميّ والقدّيس إسحق السريانيّ وسمعان اللّاهوتي الجديد وغيرهم.
تعتبر أعمال الآباء القدّيسين الروحيّة نبعًا يرتشف منه كلّ مؤمن يبحث عن الحياة الروحيّة الحقيقيّة وعن الخلاص. لذا على كلّ منّا أن يقرأ خلال فترة الصوم الكبير كتابًا روحيًّا واحدًا على الأقلّ ككتاب "سلّم الفضائل" للقدّيس يوحنّا السلّميّ أو أعمال البارّ دروثاوس أو كتاب "نسكيّات" للقدّيس إسحق السوريّ أو "أسئلة وأجوبة" للقدّيسين برصنوفيوس ويوحنّا. ومن الثابت أنّ أيّ مؤمن يقرأ إحدى هذه الأعمال سيلقى الفائدة الروحيّة الجلّى.
كان هاجس آباء بلادنا القدّيسين في القرن التاسع عشر كالقدّيسَيْن ثيوفانوس الحبيس وإغناطيوس بريانتشانينوف أن يصل التعليم والكتابات الروحيّة الصحيحة والسليمة لكلّ المؤمنين. فالقدّيس إغناطيوس بريانتشانينوف، مثلًا، جمع أقوال الآباء النسّاك في كتاب "الباتيريكون"، كما ترجم القدّيس ثيوفانوس الحبيس إلى اللّغة الروسيّة أعمال آباء الكنيسة "النسّاك" في كتاب "الفيلوكاليا" والتي جاءت ضمن مجموعة من خمسة مجلَّدات.
فلماذا يجب أن نقرأ نصوص الآباء القدّيسين إذا كان الرهبان قد كتبوها من أجل الرهبان؟ ولكن قد نطرح أيضًا السؤال الآخر ما أهمّيّة الاستماع إلى التسابيح الليتورجيّة كقانون التوبة للقدّيس أندراوس الكريتيّ وغيره، والتي كتبها، أيضًا، الرهبان وللرهبان؟
من النافل القول إنّ من يعيش في العالم هو غير مرغم أن يماثل الرهبان في حياتهم، إذ لا يمكنه، بل وغير صحيح، أن يحيا الحياة الرهبانيّة في العالم، فهو ليس مسؤولًا عن نفسه، وحسب، وإنّما، أيضًا، عن أطفاله وعائلته وأقربائه، وهو مسؤول، كذلك، أمام صاحب العمل وأمام المجتمع ككلّ. بينما الرهبان النسّاك الذين غادروا إلى الصحراء هم مسؤولون، فقط، عن أنفسهم وأمام الربّ الإله، لذلك لا يمكن أن نحتذي حذوهم ونحن في العالم، فالمسؤوليّات تختلف باختلاف المكان الذي نعيش فيه.
ورغم ذلك، فقراءة الأدب الآبائيّ مفيد لكلّ شخص سيّان كان مكرَّسًا أو علمانيًّا، فالرهبان النسّاك سبروا غور أعماق النفس البشريّة، وعاشوا أعمق شركة مع الله، والتي لا يستطيع الإنسان العاديّ الوصول إليها بمفرده. وسوف نجد أثناء قراءة كتبهم أنّ البعض منهم شاهد النور الإلهيّ، والبعض الآخر تحدّث مع الربّ، وغيرهم ظهر لهم القدّيسون، ومنهم من أمضى شهورًا وسنوات عديدة في محاربة الشياطين، التي حاولت أخافتهم وتخلّيهم عن الحياة الرهبانيّة، فهؤلاء جميعهم وصفوا سائر تجاربهم الروحيّة في كتبهم. ولكن علينا أن نعي عدم محاولة التمثّل بجهادهم خلوًّا من تمييز أو مشورة، وما يمكننا فعله هو أن نقتدي بمحبّتهم الكاملة لله وللقريب، وفي سعيهم الدؤوب لتكريس ذواتهم بالكلّيّة لنيل الخلاص.
لقد أُعطيت لنا وصيّتان تتعلّقان بمحبّة الله والقريب. وفي الحقيقة، فإنّ هاتين الوصيّتين أعطيتا في العهد القديم ولكنّ الربّ يسوع المسيح جدّدهما ليس للرهبان والنسّاك، فقط، وإن كان هؤلاء قد حقّقوها، إنّما يمكن لكلّ واحد منّا أن يكتسب الكثير من الخبرات الروحيّة عبر أعمالهم رغم الزمن السحيق الذي يفصلنا عنهم.
فكما أنّ النصوص الليتورجيّة تبقى، أبدًا، جديدة ومواكبة للزمن الحاضر، كذلك أعمال الآباء القدّيسين لم تفقد أهمّيّتها في عصرنا. وقد يدّعي أحدهم بأنّ النصوص الليتورجيّة صعبة الفهم لأنّ قراءتها تتمّ بلغة غير مفهومة (اللّغة السلافيّة القديمة)، ولكنّ الحقيقة أنّه حتّى ولو تُرجمت إلى اللغة الروسيّة الحديثة، فستظلّ غريبة على البعض.
فإن قمنا بالمقارنة مع بعض الأمور العالميّة نجد أنّه يمكن لأيّ شخص أن يفهم أغنية البوب ببساطة، بينما لو أراد أن يفهم معنى التسابيح الليتورجيّة سيبذل الكثير من العناء لفهم السلافيّة القديمة ويتعلّل بحجج متعدّدة. من المؤكَّد أن كلّ واحد منّا حين سمع قانون التوبة الكبير للقدّيس أندراوس الكريتيّ، لم يفهم منه الكثير، وهذا ليس لأنّ القانون يُقرأ باللغة السلّافيّة، وإنّما لأنّ النص كُتب في زمن مختلف لأشخاص ذوي ذهنيّة خاصّة عاشت الكتاب المقدّس بطريقة متباينة كلّيًّا، لأشخاص فهموا العالم وعاشوا فيه بطريقة مختلفة تمامًا. ومع ذلك، فإنّنا نقرأ هذا القانون، كلّ سنة، ونصغي بانتباه إلى كلماته رغم فهمنا المحدود لها، ولكنّ الربّ يكشف لنا أسراره من خلالها ويوجّهنا إلى طريق التوبة.
عندما نقرأ كلمات الآباء الأبرار، نجد أنّ الكثير منها تمسّ قلوبنا، وهذا هو السبب في أنّ كتابات الآباء القدّيسين تشكّل كنز الكنيسة الأرثوذكسيّة، الذي يمكن لكلّ شخص أن يرتشف منه، فهو ليس حكرًا على الرهبان. تعرض الكنيسة أمامنا، في أيّام الصوم الكبير، هذا الإرث، وتدعونا لننهل من كنوز هؤلاء الآباء الأبرار، مرشدة إيّانا إلى طريق التوبة، آمين".
دائرة الاتّصالات في قسم العلاقات الخارجيّة الكنسيّة